نوع المستند : المقالة البحثیة
المؤلفون
1 دانشجوي دکتراي زبان و ادبيات عربي ـ دانشگاه اصفهان
2 استاديار فقيد رشتة زبان و ادبيات عربي ـ دانشگاه اصفهان.
المستخلص
الكلمات الرئيسية
عنوان المقالة [English]
المؤلفون [English]
From a long time ago, describing the woman as well as love and mania has allocated a large part of poets’ poetry to itself. It could be said that there is almost no poet some of whose poems are not related to women. Moreover, love and affection are in fact common senses among human beings. In the period of Arabic poetry movement, this issue found a different color and the poets noticed the social status of women and attempted to restore the lost rights. In Shoghi’s poetry, the woman was pictured in two ways. The first was related to social problems with which the women were facing at that time and in fact they were the main factor of the movements which were seeking the women freedom. The second was the woman image as a matter of lyricism. In Shoghi’s poetry, two tendencies could be observed. The first is the classical tendency in the introduction of his eulogy poems as well as those which were purely in the field lyricism. The second is the romantic tendency shown in his presentation poetry. In these poems, the poet writes the poetry through his feeling and emotion and because he speaks by the heroes of the story, he has more freedom of speech. Our aim in this article is to have an analytical investigation of Shoghi’s viewpoints concerning social issues related to women and his lyricism (material or spiritual).
الكلمات الرئيسية [English]
المقدمة
اتّجه الشعراء منذ القدیم إلى موضوع المرأة فی أشعارهم. ومنهم من یرون أن خلوّ الشعر من موضوع المرأة والحبّ قد لا یجتذب القارئ أو السامع. فلا نکاد نعثر على شاعر یخلو شعره کلّیّاً من هذا الموضوع. فهو موضوع إنسانی عاطفی، والشاعر بالتطرق إلى هذا الموضوع فإنه فی الحقیقة یشارک الناس فی أحاسیسهم. وربما نرى شاعراً لم یتذوّق الحبّ أبداً، ولکن لا یخلو شعره منه.
منذ أن وُجد الإنسان، أوجد الله حباً وعاطفة بین الرجل والمرأة. ومنذ أن وُجد الشعر، کان للمرأة منطقة واسعة فی الشعر، یعبّر الشعراء فیها عن مشاعرهم وأحاسیسهم إزاء المرأة. وهذه الأحاسیس کثیراً ما تعتبر أحاسیس مشترکة بین نوع البشر. نرى فی الشعر العربی هذه الأحاسیس تعبّر فی القوالب المادیة والجسدیة عادة، ولکن فی عصر النهضة هناک شعراء قد بدؤوا ینظرون إلى المرأة نظرة تختلف عن أسلافهم؛ کمطران وجبران وغیرهم، فالمرأة عندهم لیست وسیلة لتمتع الرجال، وإنما هی ذات شخصیة إنسانیة تستحق لإبراز الحب إلیها لروحها وخصالها الشریفة الإنسانیة لا لجسمها ومنظرها الجمیل؛ فانتقل الشعر من وصف محاسن جسد المرأة إلى وصف الشعور وخلجات النفس وتأثیر الحب فیها.
وفی العصر الذی عاش فیه شوقی، کان للمرأة فی شعر الشعراء شأن آخر. فالمرأة فی هذا العصر اتخذت منطقة واسعة من القضایا الاجتماعیة، والقضایا التی کانت تعانیها أصبحت قضیة المجتمع. فنشاهد زعماء الحرکات الإصلاحیة یدعون لحلّ هذه القضایا؛ وعلى رأسهم قاسم أمین ومحمد عبده. فإنهما کانا یدعوان إلى تحریر المرأة من القیود التی أثقلت کاهلها. ودعوتهم فی الحقیقة کانت دعوة لتحریر المجتمع. فالمرأة فی الواقع تشکل زهاء نصف المجتمع، وتعتبر مربیة للأجیال القادمة.
بما أن الشعر لیس بمعزل عن القضایا الاجتماعیة، وإنما هو مرآة لها، یتوقع الناس أن یکون الشاعر لسان صدق لمعاناتهم، وقائداً لهم فی حرکاتهم لإصلاح شؤونهم. وشوقی کان شاعراً یملأ اشتهاره الآذان، ویشمل صیته کل ناحیة من البلاد العربی آنذاک؛ وخاصة مصر والشام. کأن قصائده التی کانت تتردد على الألسنة قد أظلّت على کل شاعر فی عصره، وقد أصبح مجلباً للأنظار، وموضوعاً لالتفات القراء والسامعین فی البلاد، لا یمکن حصرهم فی طبقة خاصة أدبیة أو اجتماعیة، وانما کان المحتفلون به احتفال الرضا والاشتیاق فی الطبقة الاجتماعیة الدنیا والوسطى من حیث الثقافة والثروة؛ کما کان محبوه فی الطبقة العلیا ثقافة أو ثروة وخاصة الأدباء منهم،وهو لایزال یتمتع باجتلاب الأنظار إلى عصرنا هذا.
قد تعرض کثیر من النقاد لقصائد شوقی من مؤید ومعظّم له؛ کـ«ـفاروق الطباع»فی مقدمته الطویلة على الشوقیات، و«إبراهیم الأبیاری»الذی عندما یتکلم عن غزل شوقی فی کتابه الموسوعة الشوقیة، یفتخر بأنه یقارنه بشعراء العصر الجاهلی والعباسی لیثبت أنه یفوقهم.
یعتقد «واصف أبو الشباب» فی کتابه القدیم والجدید فی الشعر العربی الحدیث بأن شوقی یبدو متناقضاً بین شعره فی المرأة، وشعره فی مدائحه النبویة. ویعتبر هذا التناقض منبعثاً عن توتر دائم فی أعماق الشاعر، ویراه موافقاً لرؤیته التقلیدیة، ولکن نقده لهذا الموضوع فی شعر شوقی لا یتجاوز عن جملات قصیرة.
إن الموضوعات فی شعر شوقی متنوعة جداً؛ کالتاریخ والوطن والمرأة والقصص للأطفال والأحداث الاجتماعیة والدین والمدح والرثاء. فکأنه لم یدَع موضوعاً إلا وتعرّض له. إذن، ما کُتب فی شوقی کثیرٌ، ومن کَتب فیه کثیر، وکلٌّ منهم قد تعرض لموضوع خاص من موضوعاته، أو جمع بین عدة موضوعات.
فیبدو أن هناک ثغراً لدراسة مستقلة حول رؤى الشاعر فی المرأة فی منحیین الاجتماعی والعاطفی، لتتضح مواقفه حول الحرکات التحرریة فی مجتمعه، ومدى مجاراته بل قیادته لها، ثم مدى المحاولات التجدیدیة فی الغزل لشاعر تملأ الآفاق قصائده، ویعظّمه محبّوه بحماسة، ولقّبوه «أمیر الشعراء».
نحاول فی هذه الدراسة أن نحصل على أجوبة للأسئلة التالیة:
ما کانت نظرة شوقی إلى المرأة فی إطار حقوقها الاجتماعی، وما کان دوره کشاعر یهتم بشؤون المجتمع وقضایاه فی قیادة هذه الحرکات التحرریة للمرأة لإعادة حقوقها إلیها؟
ما هی نظرة شوقی إلیها فی إطار الحب والعاطفة؟
بما أن للتغزل سابقة طویلة فی الشعر العربی، فهل جاء شوقی بجدید فی هذا المضمار لیکون له دور متمیز فی النهضة الأدبیة؟
وانتهجنا فی هذه الدراسة المنهج الوصفی ــ التحلیلی، مع إیراد أمثلة شعریة من الشاعر لإثبات ما نقدم من النقد، بالاستعانة بما قال الشاعر. فدرسنا شعره فی شؤون المرأة الاجتماعیة والقضایا المطروحة فی ذلک الزمن من الحجاب والسفور والتعلیم وقضایا أخرى کانت المرأة تعانیها؛ مثل: زواج الفتیات بالشیوخ وتعدد الزوجات.
ثم تعرّضنا لقصائده فی الحب والعواطف المتبادلة مع المرأة، لندرس أ کان صادقاً فیما یقول أم استخدم هذا الموضوع لاجتذاب القارئ، ولئلا یخلو شعره من موضوع یُبدی فی کثیر من الأحیان مقدرة الشاعر.
المرأة کواقع إجتماعی فی شعر شوقی
قد جال شوقی فی موضوعات مختلفة، ولم یکد یدع موضوعاً فی مجتمعه وعصره إلّا واهتمّ به، وقال فیه الشعر؛ فخاض فی مجال المرأةوواقعها الاجتماعی.
کان شوقی شاعر البلاط، شاعراً مثقفاً بقی مقیداً بنظام التقالید. فمن جهة یرید مجاراة الحرکات الإصلاحیة التی کانت تهدف تحریر المرأة من قیودها الاجتماعیة؛ لأنه کان واقفاً على أن هذه الحرکة هی حاجة العصر، وستواجه نجاحاً کلّما اطّلعت الطبقة المثقفة اطلاعاً أکثر، وإثرهم سوف یطّلع الشعب على حقوق المرأة کأیّ انسان؛ وخاصة إذا اتّسعت الصلات بین الأمة المصریة والأمم الغربیة، واتسعت الثقافة الاسلامیة، وانتشرت تعالیم الإسلام. ففی نفسه وروحه ما یحمله على الدفاع عن هذه الحرکة. ومن ناحیة أخرى، فإنه کان مدیناً للحکومة وملتزماً برعایة حقوقها.
لذا نرى شوقی یقف متردّداً بین الرفض والقبول؛ فیدافع عن الحجاب تارة وعن السفور أخرى:
الموقف الأول: دفاعه عن الحجاب
یدافع شوقی عن الحجاب معتبراً إیّاه وسیلة لصیانة المرأة وحفظها؛ فإنه یرید الحجاب للمرأة حرصاً على حفظها، باعتبارها شیئاً ثمیناً یجب أن یلفّ فی لفاف من السوسن والقرنفل. إنه فی شعره بعنوان «بین الحجاب والسفور»یخاطب طائراً جمیل الصوت ــ فکأنه یرمز بهذا الطائر إلى المرأة ــ یخاطبه ویناجیه، ومن خلال هذا الخطاب یدافع عن الحجاب ویبیّن أسباب دفاعه:
صدّاحُ یا ملک الکَنا |
|
ر ویا أمیر البلبل |
قد فزتُ منک بـ"معبد" |
|
ورُزقت قرب "الموصل"[1] |
وأتیح لی داود مِز |
|
ماراً وحُسن ترتُّل |
.. |
|
|
حرصی علیک هوىً ومن |
|
یُحرِز ثمیناً یبخل |
والشُّحُّ تُحدثه الضرو |
|
رةُ فی الجواد الْمُجزل |
أنا إن جعلتُک فی نُضا |
|
رٍ بالحریر مجلّل[2] |
ولففتُه فی سَوسنٍ |
|
وحففتُـه بقرنفل |
وحرقتُ أزکى العود حَو |
|
لَیْه وأغلى الصَّندل |
وحملتُه فوق العیو |
|
نِ وفوق رأس الجدول[3] |
... |
|
|
ما کنتُ یا صدّاح عنــ |
|
ـدک بالکریم الْمُفضل |
شهْدُ الحیاةِ مَشوبةٌ |
|
بالرّقّ مثلُ الحَنظَلِ
|
والقید لو کان الجُما |
|
نُ[4] منظّماً لم یُحمل |
(شوقی،2009م، ص 518)
ونراه فی رثاء قاسم أمین یشیر إلى مناقبه، ولکن یبقى على موقفه فی الدفاع عن الحجاب، مستدلاً أن بین الرجال من هو کوحش مفترس:
إن الحجاب سماحة ویسارة |
|
لولا وحوش فی الرجال ضواری |
(المصدر نفسه، ص 332)
الموقف الثانی:دفاعه عن السفور
نرى شوقی هنا یقف إزاء رفع الحجاب موقفاً مغایراً تماماً للموقف الذی أسلفناه. ففی قصیدة «عبث المشیب» یعتبر حجاب نساء مصر کالنار لا تطاق، کما یأسف على ما کانت علیه المرأة من حجاب، عندما یصفها بوجوه کالقمر، لکن تلک الوجوه روّعت بالبراقع والخمار:
إن الحجاب على "فروقٍ" جَنّـةٌ |
|
وحجابُ مصـرَ وریفِـها من نار |
وعلى وجوه[5] کالأهِلّة رُوِّعت |
|
بعد السّفور ببرقع وخِمار |
یعتبر شوقی الحجاب فی ترکیا کالجنة. فیبدو أنه لا یرفض الحجاب إطلاقاً، وإنما یرفض حجاب أهل مصر الذی هو قید على المرأة للحضور فی الساحات الاجتماعیة. فیجدر بالمرأة أن یکون لها رادع من نفسها دائماً یحجبها عن النظرات المذنبة. ومبعث هذا الرادع هو أدب المرأة والفضیلة التی نشأت علیها.
کما یدافع عن السفور فی قصیدته الأخرى «کُوک صُو»[6]، مستدلاً على هذا الأمر بأن الذی یحجب المرأة هو أدبها وحده؛ فهو خیر ساتر لها، ولیس الحریر وما شابه ذلک هو الحجاب الحقیقی:
فقل للجانحین إلى حجاب |
|
أَتَحجبُ عن صَنیع اللهِ نفسُ؟ |
إذا لم یستُر الأدبُ الغوانی |
|
فلا یُغنی الحریرُ ولا الدِّمَقسُ[7] |
(المصدر نفسه، ص 382)
الموقف الثالث: بین الحجاب والسفور
فی قصیدة أخرى تحت عنوان «مصر تجدد نفسها بنسائها المتجددات»، یفتخر بالنساء المصریات اللاتی یتجددن ویشارکن فی الأمور الاجتماعیة. یقف شوقی فی هذه القصیدة موقفاً وسطاً. فهو یشاهد التضییق الشدید على المرأة المصریة، ومن ناحیة أخرى لاینسى الفساد الذی أُلقیت فیه المرأة الغربیة بسبب حریتها اللامحدودة؛ فیعتقد أن التحرر من کل قید وعدم الالتزام بأیّ منهج إنسانی وشرعی یوجبان الهلاک. فللحریة شروط، ومنها التقید بسُنة الدین، وعدم الاختلاب بفتنة الحضارة الغربیة. فهو یرى أن الدین لم ینقص حقوق المرأة، وأن هذا التضییق المفرِط على المرأة وعدم حریّتها هو من جانب من یرون أنفسهم أصحابَ حقّ فی الدین وعلى المرأة، ولکن الدین لم یکن لِیفرض هذه التکالیف المتعبة المزریة؛ فالتمسک بالدین تضمین لأخلاقها دون التعسف بحقوقها.
ومن جانب آخر، فإن التمسک بالحضارة الغربیة البحتة، والتخلی عن الدین وعن الحضارة الشرقیة ممّا سیکون السبب لوقوع المرأة فی مستنقع الهلاک:
ماذا لقیتَ من الحضا |
|
رة یا أُخَیّ التُّرَّهات |
لم تلقَ غیرَ الرِّقّ من |
|
عُسر على الشرقیّ عات |
خُذ بالکتاب وبالحدیـ |
|
ث وسیرة السلف الثقات |
هذا رسولُ الله لم |
|
یُنقص حقوق المؤمنات |
العلم کان شریعةً |
|
لنسائه المتفقِّهات |
رُضن التجارةَ والسیا |
|
سة والشؤون الأخریات |
ولقد عَلَت ببناته |
|
لُججُ العلوم الزّاخرات |
کانت "سُکَینة" تملأ الد |
|
ـدنیا وتهزأ بالرواة |
روت الحدیث وفسّرت |
|
آی الکتاب البیّنات |
وحضارةُ الإسلام تنـ |
|
طق عن مکان المسلمات |
(المصدر نفسه، ص 183)
یستعرض شوقی فی هذه القصیدة کثیراً من المشاهد التی برزت النساء فیها قائدات للعلم والمعرفة والفن، دون أن یعدلن عن الشریعة والأخلاق. فمنهن راویات لأحادیث النبی الکریم %، ومفسرات للقرآن؛ ومنهن أدیبات، وشاعرات، وعالمات، ویقول: إن رسول الإسلام محمد المصطفی 9 لم یغفل فی نهجه عن حقوق المرأة، وأعطاها من الحقّ ما تستحقّ؛ کما أن رسول الله q کان المشجّع الأول لتعلیم النساء والتفقه فی الدین. وفی الوقت نفسه، کانت المرأة تمارس التجارة والسیاسة معاً؛ وکذا الأمور الأخرى التی تخصّ المجتمع آنذاک.
وقد اهتمّت المرأة من أهل بیت النبوّة والرسالة مثل سکینة بتفسیر القرآن وروایة الأحادیث النبویّة. فدورها هنا لایقلّ أهمیة عن دور الرجل.
فالحضارة الشرق الأوسطیة إذا اعتنق الإسلام والتزم بأوامر الشریعة ونواهیها، بوسعها أن تحفظ المرأة من الفساد والهلاک، فی حین تعطیها حقّها الطبیعی من الحیاة. فعلى المرأة أن تتمسّک بحضارتها وبدینها لکی تُحفَظ لها کرامتُها وقیمتها الانسانیة، مع السماح لها بأن تتدخّل فی الشؤون السیاسیة والاجتماعیة.
معاناة أخرى للمرأة وهی الزواج بالشیوخ فی شعر شوقی
هناک قضایا أخرى تعانیها المرأة فی مجتمعها. فنرى شوقی لم یتخذ جانب الصمت إزاء تلک القضایا، بل إنه اتخذ موقفاً بیّناً. فقد دافع عن حقوق المرأة، ولکن لم یکن فی موقفه هذا أکثر من ناصح ینصح الأمة لردّ حقوقها إلیها. منها: مسألة زواج الفتیات الصغیرات بشیوخ متقدمین فی السن الذین کانوا بمثابة أجداد لهؤلاء الفتیات، فیدفعهن آباؤهن إلیهم رغبة فی المال.
یشیر الشاعر إلى هذا الظلم الفاحش فی شعره بعنوان «عبث المشیب»، کما یشیر إلى ظلم آخر، وهو تعدد الزوجات:
یتزوّجون على نساءٍ تحتَهم |
|
لا صاحبات بُغًى ولا بشِرار |
الصابراتُ لضَرَّة ومَضَرّةٍ |
|
المحییات اللیلَ بالأذکار[8] |
من کل ذی سبعین یَکتُمُ شَیبَه |
|
والشَّیبُ فی فَودَیه ضوء نهار[9] |
... |
|
|
ما زُوّجَتْ تلک الفتاةُ وإنما |
|
بیعَ الصِّبا والحسنُ بالدّینار |
بعضُ الزّواج مذَمَّمٌ ما بالزِّنا |
|
والرِّقِّ إن قیسا به من عار |
(المصدر نفسه، ص 334)
هکذا تقضی الفتاة عمرها بین أب قسیّ، وزوج شیخ کبیر. فلیست حیاتها إلّا موتاً تدریجیاً، یبیعها أبوها کسلعة، ویشتریها زوجها کمتعة، بعد أن کانت له زوجات وأولاد وأحفاد. ثمّ یحمل أبواها هذا العمل على الشرع. فهما وزوجها یستحلّون الشرع، ویحملونه على غیر ما هو علیه، لإرضاء نزواتهم.
یطرح شوقی قضیة الظلم الذی تعانیه المرأة المصریة، ویطرح قضیة الحجاب والسفور. فمعاناة المرأة هی معاناة اجتماعیة یجب أن یستعرض له قادة المجتمع من السیاسیین والاجتماعیین والأدباء، ولکن ألیست لکلٍّ منهم شِرعتُه الخاصة فی طرح القضایا؟ کیف یطرح شوقی هذه القضیة؟ أیطرحها کأدیب وشاعر أم یطرحها کناقد اجتماعی؟
فهذا أسلوب وعظیّ مباشر سُبک فی قالب النظم. إذا أخذنا منه شکله وقالبه، لا فرق بینه وبین ما یطرحه الناقد الاجتماعی، ولربّما کان أضعف. فشوقی لیس ناقداً اجتماعیاً؛ فللاجتماعیّ نظرات فی النقد وغورٌ وتعمق فیه لیس لشوقی. إضافة إلى أن شوقی قیّد نفسه حین طرح أمثال هذه الموضوعات فی سجون الوزن والقافیة، ویلجأ أحیاناً إلى بعض الصناعات کالجناس من مثل ما کان بین «الضرّة» و«المضرّة»، فی حین أن الناقد الاجتماعی لا یقیّده شیء من هذا، وهو یتمتع بحریة أکثر من الناظم فی طرح قضایاه. فنرى على سبیل المثال أن أقصى ما وصل إلیه الشاعر من النتیجة فی أصول الزواج فی القصیدة نفسها، أن أحسن الکفاءة فی الزواج هو الکفاءة فی السن:
فتّشتُ لـم أرَ فی الزواج کفاءةً |
|
ککفـاءةِ الأزواج فی الأعـمارِ |
ألهذا البیت قیمة لیُتّخذ أصل أساسی فی الزواج؟ أم یجب أن یعتبر ککثیر من أمور أخرى؟ وإذا قبلنا ــ على فرض المحال ــ رأیه، فما هی القیمة الشعریة لهذا البیت؟ وما مکانة هذه الآراء السطحیة من الشعر؟
موقف شوقی من المرأة والتعلیم
القضیة الأخرى التی تعرّض لها شوقی هی قضیة التعلیم. ویمکن القول بأن هذه القضیة أصلٌ وأساس. فإذا اهتمّ قادة المجتمع بهذه القضیة، فکأنما اهتمّوا بالقضایا الأخرى التی تعانیها المرأة. فالتعلیم أساس کل شیء، والعلم مفتاح کل مغلق، وإزالة الجهل بدایة السیر فی طریق یؤمّن سلامة المجتمع من رجله وامرأته.
إن زعماء الإصلاح أرادوا نهضة جامعة عامة لإصلاح المجتمع. وفی الحقیقة، فإن النهضة بدون الالتفات إلى المرأة ستفقد رکناً أساسیاً من أرکانها، والمرأة الواعیة العالمة هی التی بوسعها أن تکون من دعائم النهضة، لا المرأة الجاهلة الخاملة. فقد نحا شوقی فی شعره منحىً تنویریاً فی هذا الجانب من القضیة؛ کما یعتبر محمود الربیعی شعر شوقی «تنویراً إصلاحیاً» (الربیعی، 2008م، ص 224)، ویشید بدور المرأة ومعرفتها فی نهوض المجتمع وفی حمایة الرجل لأداء مهمته.
کما أن شوقی یبدی رأیه إزاء النهضة التحریریة للمرأة فی موضوع التعلیم بقوله:
حُریّةٌ خُلِقَ النسا |
|
ءُ لها کما خُلق الذُّکورْ |
(المصدر نفسه، ص 379)
إذا أخذنا بعین الاعتبار الظروفَ التی کان شوقی یعیشها، والحالة التی کانت تعیشها المرأة، فإننا نجد هذا الحکم من جانب شوقی جسارة وشجاعة؛ کما یجب أن لا ننسى دور قاسم أمین فی إعداد الظروف المناسبة لمثل هذه الشجاعة ولإبداء مثل هذه الآراء. والشاعر لم یعتبر الجنس من شروط الحریة، بل یثبتها لکل أبناء البشر دون النظر إلى الجنس. ویجب أن نتذکر أنه لم یکن للمرأة فی ذلک العصر أدنى حقّ من الحقوق الاجتماعیة . فی مثل هذه الظروف الخانقة أثبت شوقی لها حقّ الحریة کما هو للرجل، فإنه لا یثبته لها فقط وإنما یدّعی أنها مذ خُلقت خُلقت لها الحریة؛ أی: هی حقّ ثابتٌ لها لا یحتاج إلى الإثبات.
إنه فی هذه القصیدة یؤید موقف قاسم أمین، ویقف بجانبه، ویستسلم لکل ما عرضه قاسم أمین؛ فیبدی هذا الاستسلام بقوله:
یا قاسـمُ انظـر کیـف سـا |
|
رَ الفـکرُ وانتـقـل الشـعــورْ؟! |
جابـَتْ قضـیّتـُک البلا |
|
دُ کـأنهـا مَـثـَلٌ یَسـیــرْ |
... |
|
|
مــا فی کتـابکَ طـفـرةٌ |
|
تُنـعـى عـلیْـک ولا غـرورْ |
لک فــی مسائـله الکـلا |
|
مُ العَــفُّ والجـــدلُ الـوَقـورْ |
(المصدر نفسه، ص 379)
رأینا موقف شوقی إزاء قاسم أمین ودعوته عندما رثاه فی قصیدته. ثمّ یتقدّم الزمان حتى نصل إلى زمن متأخّر، وهو عشرون عاماً بعد وفاة قاسم أمین. ففی هذا الزمان نرى شوقی یدافع عن دعوة قاسم أمین. فماذا یمکن أن نستنتج من هذا التباین بین الموقفین له حول أمر واحد؟
للإجابة عن هذا السؤال یجب الإشارة إلى الظروف التی قال شوقی فیها القصیدتین. فقد قال القصیدة الأولى، وهو مازال یعیش فی البلاط، وتحت کنف الخدیوی، والثانیة قالها بعد أن قضى أیام نفیه، ورجع إلى وطنه لیعیش کمواطن مصری بین أبناء شعبه. فهل یمکن أن نستنتج أن دَینَ شوقی لذوی الحقوق من الحکام فی القصیدة الأولى کان السبب فی أن یکون لساناً لهم، فلا یتکلم عمّا فی ضمیره وعمّا فی نفسه؟ وهذا السبب هو الذی جعله لا یجاری الشعب فی حرکاته الإصلاحیة؟
اللهم إلّا إذا قیل: إن شوقی اتخذ ذلک الموقف آنذاک إرضاءً لولیّ نعمته، واتّخذ هذا الموقف بعد مرور عشرین عاماً إرضاءً للشعب الذی کان همّ شوقی أن یستجلبه إلیه.
یبدو أن شوقی فی کلّ الموقفَین لم یتکلم عن نفسه، وإنما کان یتحدث تارة عن أولئک، وتارة عن هؤلاء. فبعض الشعراء لایأتیه الشعر ــ وخاصة بالوزن والقافیة ــ إلّا إذا أنشد من أعماق نفسه؛ فیواتیه الشعر فی خلجات قلبه، ولکن شوقی لم یکن من الشعراء الذین لا یقدرون على الإنشاد، إذا لم یکن الشعر منبعثاً عن عواطفهم ومواقفهم الحقیقیة، وإنما کانت موهبته الشعریة غزیرة جدّاً یأتیه الشعر فی أی موضوع أراد. فلم یکن صعباً بالنسبة إلیه أن یقول الشعرَ دون أن یحسّ بمعاناة.
المرأة کمادّة غزلیة فی شعر شوقی
للمرأة فی شعر شوقی وجوه متعدّدة ومنها الغزل. جاء غزل شوقی على نوعین: فتارةً یحذو شوقی حذو القدماء بصوره وأشکاله المختلفة، فیأتی غزله فی مقدمة قصائده المدحیة، وتارة یجعل الغزل موضوعاً بعینه للقصیدة الواحدة. وفی کلا النوعین لاتختلف تشبیهاته ووصفه للمرأة اختلافاً کلّیّاً عمّا فی شعر القدماء؛ إذ یمکن أن یُعتبر شوقی شاعراً تقلیدیاً فی کل من النوعین. نعم، حاول شوقی أن یجدّد فی بعض غزله، ولکنه لم یخرج حتى فی تجدیده عن إطار الشعر التقلیدی. إنه یعتبر بعض قصائده المدحیة جدیدة؛ حیث یقول: «جعلتُ أبعث بقصائد المدیح من أروبا مملوءة من جدید المعانی وحدیث الأسالیب» (شوقی، 2009م، ص 7)، ثمّ یشیر إلى مقدمته الغزلیة فی هذه الأبیات:
خدعوها بقولهم حَسناءُ |
|
والغوانی یَغُرُّهن الثّناءُ |
أَتُراها تَناسَت اسمیَ لمّا |
|
کثُرتْ فی غَرامها الأسماءُ؟ |
إن رأتْنی تَمیلُ عنی کأنْ لم |
|
تَکُ بینی وبینها أشیاءُ! |
نَظرةٌ فابتسامةٌ فسَلامٌ |
|
فکلامٌ فموعدٌ فلقاءُ |
ففِراقٌ یکونُ فیه دواءٌ |
|
أو فِراقٌ یکونُ منهُ الدّاءُ |
(شوقی،2009م، ص 55)
یدّعی شوقی أن هذه الأبیات تجدید فی القصائد المدحیة، فی حین یعتقد زکی مبارک أن بین هذه الأبیات والتجدید بَوناً بعیداً (مبارک، 1408هـ، ص 82)، مستدلاً بأن النسیب جاء فی مقدمة المدح کما کان شأن الشعر القدیم. ونضیف نحن: ألم یأت الشعر فی شکل الشعر القدیم من حیث الوزن والقافیة؟!
ویعترف ناقد آخر أنه لا یمکن أن نعتبر هذه المقدمة الغزلیة للمدح تجدیداً ــ ولا یبعد عن الظن أنه اتخذ هذه النظریة عن مبارک ــ حیث یقول:«فإذا کان شوقی یحسب التجدیدَ یکون فی المقدمات الغزلیة لقصائد المدح، فقد ضلّ» (جحا،1999م، ص 44).
إن شوقی لا یتعمق ولا یغور فی غزله فی الحبّ، وإنما یرى منه القشور؛ لأنه ملتزم بحفظ التقالید، وملتزم بأن یراعی سیاسة البلاط؛ فکأنه یرى دائماً عیوناً من الطبقة الحاکمة تراقبه، وهو ذو مکانة اجتماعیة یجب أن یحافظ علیها، وهذه المکانة وتلک المراقبة تدعوانِه دائماً إلى أن لا یتورط فی قضیة الحبّ، وإنما یهتمّ بها فی حدود التقالید والسنن.
ثمّ یبدو أنه لم یتذوّق طعم هذا الحبّ لیکون شغله الشاغل، ویتألّم منه من أعماق وجوده. ومن لم یذق ألم الحبّ وشوق الوصال فی أعماق وجوده، کیف یتعمق فیه ویصفه وصفاً شاملاً؟! فلا یتجاوز الوصفَ الظاهر وعرضَ بعض الأحداث، ولا یتعمق فی شخصیة المحبوب، ولا یعطی المتلقی نظرة عمیقة فی توصیفه.
کما تبدو سطحیة شوقی فی هذا الموضوع من خلال بیتین آخرین:
وما الحبُّ إلّا طاعةٌ وتجاوزٌ |
|
وإن أکثروا أوصافَه والمعانیا |
وما هـو إلا العیـن بالعیـن تلتقی |
|
وإن نـوّعـوا أسبـابـه والـدَّواعیـا |
(شوقی، 2009م، ص 767)
غیر أنه بالغ بعض النقاد فی إکبار شوقی مبالغة کثیرة، وافتتنوا به؛ فیعترفون له بما لیس عنده، ویفضّلونه على الشعراء عامة فی عصره، دون أن یأتوا بأدلة مستقیمة. ومن بینهم من یرى أنه وصل القمّة فی الحب، فی حین لا یأتی لنا بمثال واحد فی هذا المجال: «وبلغ شوقی فی ذلک القمّة لم یستطع شاعر عربی أن یصنع صنیعه، ولم یجاره أحد من الشعراء فی شعر الحکمة والوطنیة والحریة، ولا فی شعر الفکرة والطبیعة والحب...»! (خفاجی، 1985م، ص 76). وبعید عن الظن أن الناقد لم یقرأ أشعار الشعراء المعاصر لشوقی فی الحب والطبیعة والحریة، لیعطی حکماً کلّیّاً کهذا!
لا یتعمق شوقی فی وصف الحبّ، ولکنه شاعر مجید فی وصف المحبوب بما هی امرأة فحسب، فلیست إلّا دمیة، لا یُنظر إلیها کإنسان ذات عواطف وذات شخصیة إنسانیة، ولا یهتمّ بها إلّا من حیث ظاهرها. فشوقی فی هذا المضمار وصّاف ماهر، یصف القدّ والخال والعین وما إلى ذلک من الأوصاف الظاهریة. وهذا ما تقول نجمة إدریس عن شوقی وموقفه عن المرأة:
یمکن القول بدءً إن المرأة فی عصر شوقی ظهرت فی صورتین، وکان الشاعر یشخص فیهما کلّ على حدة، ویدبّج حول صورة ما یعنّ له من آراء وخطابات، أغلبها انطباعیة سطحیة، لا غور فیها ولا عمق. أما الصورة الأولى التی رأى فیها الشاعر المرأة وعاینها عن قرب، فقد کانت من خلال ما یحضره من حفلات راقصة، واستقبالات تقام فی قصر الخدیوی؛ حیث تبدو له المرأة فتنة ظاهرة ومبذولة فی الثیاب والعطور، وفی القدود الممشوقة، والوجوه اللامعة، وفی الحضور المستجیب لکل ما تفرضه اللیاقات الاحتفالیة من تجاذب فی الحدیث، وأنس وودٍّ متقابل ... ولذا نجد الشاعر محاصراً ومصفّداً بأغلال التقلیدیة حین التعبیر عن عناصر الجمال والحُسن فی المرأة» (إدریس، 2008م، ص 118).
ثمّ إن شوقی فی القصیدة المذکورة وأمثالها تقلیدیّ فی أوصافه. فتشبیه الخدّ بالورد، والعین بالمها، والقدّ بالبان، وکثرة استعمال ألفاظ کالقنا والغمد والسمر والسهم والمهند وما إلى ذلک تدلّ على فضاء ذهنی یعیش فیه الشاعر. فهو یعیش فعلاً فی بیئة حضریة یشبه بعض مجالسها فی الضیافات والرقص والغناء مشاهد باریس، ولکن الألفاظ التی یستعملها لوصف هذه المجالس جاهلیة أو عباسیة. فعلى سبیل المثال، یرمز باللیوث إلى الرجال وبالظباء إلى النساء:
اللیوثُ ماثلةٌ |
|
والظِّباء تنسرب |
(شوقی، 2009م، ص 143)
لنستعرض ما قاله إیلیا الحاوی بهذا الشأن:
ربما خانت شوقیَ العبارةُ المستجدّة، وتنفّست فی قصیدته مباءتُه الجاهلیة الأثیرة. فتراه یذکر اللیوث للتدلیل على الرجال، والظباء للتدلیل على النساء، وهو مقیم فی قصر عابدین، حیث یزمر الزامرون ویرقص الراقصون، وتجری کؤوس الفتنة الدهّاق، وتتلوّى الحضور، وتتأوّد النهود على لیل باریسی طافح. فأین هذا من ذاک یا أخا العرب، وکیف جئت باللّیوث إلى ذاک المقر، ولماذا تولی الظباء الأدبار من دونها، عندما همّت بها نُیوبها المتوحشة؟! ألا قاتل الله التقلید والإسفاف! فهو یعترض کالسیف، ویبتر الأوصال، ویترک المعانی هامدة. ثم ماذا یجدی استدراکه: "القصور مسرحها، لا الرمال والعُشُب" فهذا معنى لا معنى فیه، وإنه من البداهات المستقبحة التی تنبو فجأة» (الحاوی، 1983م، ص 49 و50).
وهنا یُطرح سؤال وهو: ما السبب فی هذا الإقبال الکثیر من جانب الناس على شعر شوقی؟ یمکن أن نجیب بأن موسیقى شوقی تجعل أشعاره تقع فی النفوس موقعاً حسناً. فالقصیدة المذکورة ذات جرس هادئ رنین تعطی الروح هدوءً وخفّة. لنطالع أبیاتاً أخرى من القصیدة لیتبین الادعاء:
الحریر ملبسها |
|
واللُّجَینُ[10] والذّهب |
والقصور مسرحُها |
|
لا الرّمال والعُشُب |
فالقُدود بانُ رُبًى |
|
بیدَ أنها تَثِب |
یلعب العناق بها |
|
وهو مُشفق حَدِب[11] |
(شوقی، 2009م، ص 143)
ومن هذه الموسیقى الخفیفة فی قصیدة أخرى:
مــال واحتــجَبْ وادّعى الغضـبْ |
|
لیــت هـاجــرى یشــرح السبــبْ |
(المصدر نفسه، ص 100)
لا یتجاوز أغلب مصاریع القصیدتین کلمتین أو ثلاث على الأکثر؛ فیطرب لها الجماهیر الذین لا یفتنهم شیءٌ کالموسیقى. ثمّ إن الألفاظ السهلة البسیطة المستعملة تجعل الشعر عندهم أقرب للفهم. والشیء الآخر الذی جعل لمثل هذه الأشعار شأناً بین الناس هو أن المغنین کانوا یتغنون بها، فیسمعها الناس فی قالب أناشید، ویخلّدها ذلک فی أذهانهم.
والسبب الآخر هو أن بعض التشبیهات المستعملة فی الشعر القدیم یألفها کثیر ممن یقرؤون هذا الشعر قد وردت فی شعر شوقی، ثم لا یستعملها شوقی استعمال مَن لا دخل له فیه ولا تصرّف، فمقدرة شوقی شیء لا یُنکر، فهو یأخذ هذه التشبیهات ثم یتصرّف فیها تصرفاً یجعلها مقبولة عند الأدباء، منها:
وأشرقی من سماء العزّ مُشرقةً |
|
بمنظر ضاحِک اللّألاء فَتّانِ |
عسى تکفُّ دُموعٌ فیک هامیةٌ |
|
لا تطلُعُ الشمسُ والأنداءُ فی آنِ |
(المصدر نفسه، ص 704)
یشبه الحبیبة بالشمس، ویراها رفیعة منیعة کأنها فی السماء، ویشبه دموعه فی شدة انسکابه بالأنداء. وهذه کلها تشبیهات عامیة، ولکنه عندما یطلب من حبیبته أن تشرق لتکفّ دموع عینیه مستدلاً بأن طلوع الشمس وظهور الأنداء لا یکونان فی زمن واحد، یجعل التشبیه جمیلاً مقبولاً.
ومن استخدامه التوریة والاستعارة:
قاتَلْنَ فی أجفانهن قُلوبا |
|
فصرعْنها وسَلِمنَ بالأغماد |
و صبغنَ من دمها الخُدودَ تنصّلاً |
|
ولقینَ أربابَ الهوى بسواد |
(المصدر نفسه، ص 258)
فاستعمل الاستعارة فی «الأغماد»، و«صبغ الخدود»، والتوریة فی «سواد»، أراد منها سواد العین.
الصورة الرومنسیة فی شعر شوقی
وبعد هذا کله نصادف صورة أخرى للحبّ متمایزة کل التمایز فی شعر شوقی، وهی التی تتجلّى فی مسرحیته: «مجنون لیلى»، التی تدلّ على الروح الکامن فی الشاعر لا یسمح له بالظهور بما یمتاز به من مکانة اجتماعیة، ولکن الشاعر عند ما یتکلم بلسان شخصیات المسرح، یتمتع بحریّة أکثر لإبداء ما فی الضمیر الذی یمیّز شخصیته الإنسانیة والشعریة.
والمسرحیة تُمکّن مؤلّفها من أن یضع على لسان أبطاله ما لایستطیع هو أن یصرّح به ویطلقه، من مکبوتات ومشاعر وآراء فی المرأة والحبّ، وکل ما یتعلّق بتجربة الحب من صراع وانکسارات ومسرّة ومرارات. والمسرحیة أیضاً، کما هو معروف، تبعد مبدعها عن التورط بشخصه فی السیاق، أو کشف هویته من خلال البوح والتعبیر، وتستدعی بدلاً من ذلک شخوصاً آخرین للتمثیل والإنابة. یُضاف إلى ذلک أن شخوص المسرحیة عادة ما تکون افتراضیة، أو مشبوبة بالخیال والصنعة؛ لذلک فهی شخوص لا تُؤاخَذ على ما تقول وتفعل، ولا تُحاسَب کونها خیالیة ومختلَقة؛ وهی فوق ذلک صالحة لأن تُتخذ ستاراً وقناعاً للاختباء والتخفی».
(إدریس، 2006م، ص 122)
اختار الشاعر لمسرحیته بطلَین من أعماق التاریخ هما مجنون ولیلى، وهذا الاختیار یمکّنه من جهات أن یتوارى خلفهما، ویتحدث عنهما لیُبدی من آرائه ما لم تمکنه مکانته الاجتماعیة أن یعبّر عنها بصراحة. فیتکلم الشاعر عن مکنوناته الحسیة والعاطفیة بلسانهما ویخفتی تحت ستارهما.
قلنا إن مکانة شوقی الاجتماعیة وبیئته الأرستقراطیة المحافظة للتقالید والسنن لم تسمحا له بالإبانة فی موضوع الحبّ والمرأة، فاختار شوقی هذا الستار لیتکلم من ورائه. فنسبة الجنون تعطی للحبّ العمیق تأثیراً أقوى، وتمکّن الشاعر التعمیق فی الکلام عن الحب بحرّیّة ودون أی تحفّظ. هذه النسبة تعتبر ستاراً یتوارى الشاعر خلفه لیکون أکثر حریة فیما یرید أن یقول.
إن لهذه القصة جذوراً تاریخیة فهی موغلة فی التاریخ. فالبعد الزمانی من جهة والمکانی من جهة وسیلة أخرى تساعد فی تکثیف أکثر لهذا الستار.
ثمّ الصبغة الخیالیة لهذه القصة وبُعدها عن الواقع هی الأخرى تحول دون تبیین ملامح الشاعر الحقیقیة. فهذا الاختیار المجید یجعل الشاعر أن یبتعد إلى أبعد الحدود من ذکر العواطف والأحاسیس الجیّاشة، وأن یقترب من الرومانسیة والتی قد صارت نشأته الأرستقراطیة والمتحفظة حائلة بینه وبینها.
فمن ملامح الرومنسیة فی شعر شوقی أنه یرى أن الطبیعة الصحراویة کلها حبّ وعشق، وهذا الحبّ هو الذی قد هیمن على نفس شوقی، فکأن الطبیعة والصحراء مرآة لوجود الشاعر:
سجى اللیلُ حتى هاج لیَ الشعر والهوى |
|
وما البَیدُ إلّا اللیلُ والشعر والحبُّ |
(شوقی، آ 1984م، ص 150)
ومنها أن یرى کدرة اللیل على الکون؛ إذ یقدس هذه الکدرة التی تهیج له الشعر والهوى، وشوقی شاعر لا نرى أثراً من الذات والحب فی أکثر موضوعاته الشعریة، ولکنه هنا یرى هیاج الشعر والهوى ثمرة شیء واحد هو کدرة اللیل. ثمّ یرى کل شیء زائلاً إلا الحبّ:
دَعَوْنا وما یبقى إذا ما فنیتمُ |
|
فَوَ الله ما شَیءٌ خَلا الحُبِّ باقیا |
(المصدر نفسه، ص 216)
ویجعل من الطبیعة ومظاهرها أشخاصاً شاعرین یخاطبهم مخاطبة المدرِک الذی له شعور وإحساس:
جبلَ التّوباد حیّاک الحَیا |
|
وسقى اللهُ صِبانا ورعى |
فیک ناغَینا الهوى فی مهده |
|
ورضعناه فکنتَ المُرضِعا |
(السابق، ص 216)
إنه یواصل هذا الخطاب إذ یشتکی إلى الجبل کمظهر من مظاهر الطبیعة، ولکنه لایتوغل فی الرومانسیّة، فیمتزجَ بالطبیعة ومظاهرها، ویراها حزینة بسبب حزنه شأن الرومنسیین.
یمثّل هذا الاتجاه فی التعبیر العاطفی والنزعة الرومنسیة فی مسرحیة أخرى له، وهی مسرحیة «کلیوباترة» التی یتوغل فیها أکثر فی الرومنسیة، وینطلق من موضع شبیه بالتصوف فی اتّحاد المحب والمحبوب؛ حیث یقول على لسان «کلیوباترة» جملته المعروفة:
أنا أنطونیو وأنطونیـو أنا |
|
ما لروحَینا عَنِ الحُبِّ غِنی |
رَجَعَتْ عَن شَجْوِنا الرّیحُ الحَنونْ |
|
وَبعینَینا بَکـى المُزنُ الهَتونْ |
(شوقی، ب 1984م، ص 492)
لعلّه استقى هذه الصورة من أشعار الصوفیین مثل الحلاج الذی ینسب إلیه هذا البیت:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا |
|
نحن روحان حللنا بدنا |
(غریب، 1971م، ص 291)
ففی غزله الذی تکلمنا عنه مسبقاً یعتنی بالجمال الظاهری للمرأة فحسب، ولا یلتفت إلى شخصیة المرأة من حیث القیم الأخلاقیة والخصال الإنسانیة، ولکنه فی کلتا المسرحیتین ینظر إلى المرأة کإنسان ذی عواطف، فیحقّ لها حقاً فی الهوى، کما هو للرجل. فلیلى عاشقة کما یعشق مجنون، وکلیوباترة عاشقة کما یعشق أنطونیو. وفی المسرحیة نزعة إلى تحطیم القیود الکلاسیکیة والتوغّل فی الرومانسیة، وهی تقدیس الحبّ إلى حد یحمل زوج لیلى الشرعی على أن یسمح للعاشقین أن یتلاقیا، وهو شیء لاتقبله النظم الاجتماعیة والعرفیة والشرعیة. فشوقی یبیح بهذا على خلاف کل هذه النُّظم، والمسوّغ له هو أن القصة على لسان شخصیات خیالیة وتاریخیة لا على لسان شاعر یعیش فی نظام یحترم التقالید من جهة، ویعیش فی بیئة إسلامیة من جهة أخرى.
غیر أنه یمیل مرة أخرى إلى الکلاسیکیة عندما یولی اهتمامه بالعقل، ویرجحه على العاطفة، وعندما یجعل بطلی قصته مرهونین بقیود الوضع التقلیدی بدلاً من أن یخرجهما منها، ویجعلهما یعیشان فی ظل الحب.
فالموقف الأول یتجلى فی «مصرع کلیوباترا»؛ حیث تتعرض البطلة للموقفین: موقف تفضیل الحبّ، وموقف تفضیل واجبها إزاء الوطن، فتختار الثانی دون أیّ صراع فی نفسها. فکأنما خطّط شوقی من أول القصیدة انتصار الواجب على الحبّ (الموسى، 1998م، ص 466).
والموقف الثانی یتجلى فی «مجنون لیلى»؛ حیث خیّر أبو لیلى ابنته بین التزویج بمحبوبها قیس أو ورد. فسرعان ما تختار ورداً رغم حبّها العظیم لقیس بغیر أن تتنکره، دون أیّ صراع نفسی فی هذا الاختیار، وهی تحاول التمسک بالتقالید خوفاً من العار الذی یجلبه زواجها بقیس لأهلها.
وهناک موضوع آخر یجلب الانتباه، وهو أسلوب شوقی اللغویّ فی هذا النوع من الشعر. فهو أسلوب بسیط یختلف عن جزالته ورصانته التی جعلته شاعراً کلاسیکیاً من شعراء «الإحیاء». فیمیل أسلوبه إلى شفافیة التعبیر والبساطة، وهذه الشفافیة تنبعث عن مادّة الشعر، وهو العاطفة التی تبتعد بطبیعتها عن الغلظة والفخامة.
النتیجة
لقد عاش شوقی فی عصر اتخذت قضایا المرأة فیها منطقة واسعة من القضایا الاجتماعیة. یتصدى شوقی لبعض هذه القضایا کمصلح اجتماعی، لا یتجاوز حدّ الوعظ والأسلوب التقریری المباشر، ویتأرجح فی بعضها الآخر، ولا یقف موقفا حاسماً إلّا بعد فوات الأوان. فهو لا یمثل فیها دور الشاعر الرّائد، وکان بإمکانه ــ کشاعر ذی مکانة مرموقة بین الناس ــ أن یقود المجتمع فی الحرکات التقدمیة، ولکنه یکتفی بأن یکون تابعاً للحرکات الاجتماعیة.
والوجه الآخر للمرأة فی شعر شوقی هو الحبّ. فیبدو الشاعر کلاسیکیاً لم یتحرّر من قیود الکلاسیکیة، ولم یخطُ خطوات تختلف کثیراً عن متقدمیه. فیهتمّ بالصفات الجسدیة للمرأة ووصفها مقتدیاً فی وصفه بالشعراء القدامى، غیر أنه فی مسرحیاته عندما یتکلم عن المرأة والحب، یبدو شاعراً رومنسیاً؛ فکأنه فی هذا النوع من شعره یتحرر من القیود التی تفرضها علیه مکانته الاجتماعیة، فینطلق عن عاطفة صادقة وإحساس مرهف؛ إذ یتمتع بحریة أکثر، لأنه یتکلم فیها عن لسان غیره.