نوع المستند : المقالة البحثیة
المؤلف
أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة خليج فارس ـ بوشهر (الکاتب المسؤول).
المستخلص
الكلمات الرئيسية
عنوان المقالة [English]
المؤلف [English]
The voice-silence phenomenan is one of those paradoxes which had been used by the poet in the texts to explain the parodoxical reality. This phenomenon is so clear in Habib Alsamer poetry. This descriptive study trys to work on the silent language in " the fingures of rain" and to reveal voices in the text. This technicality in Alsamer's texts reveals itself as a middle langusge in different ways such as interrogating silence and mixing it with phones and voiceless heresy that affect the reader so well. lastly, voice -silence incarnates in in images such as dripping and friability and diagrams. We concluded that the poet used silence as a metaphor to express paradoxes and his bad moods in confronting nothing in the bad situations in Iraq. The voice for Samer is the inability. He became unable to send the thought, so he mix it with silence to create a third language.
الكلمات الرئيسية [English]
المقدمة
تتمیّز قصیدة النثر بالکثافة والاختزال، وکثرة الصور الموحیّة للتأثیر على المتلقّی؛ وقد تجاوزت القوالب الفنیّة الجاهزة، والتزمت الفکرة الشعریة عبر لغة تواصلیّة قائمة على التأویل والإیحاء، کما أنّها وحّدت فی فضائها الأضداد والثنائیات. وظاهرة الصوصمتیّة تُعتبر من هذه الثنائیات والمفارقات الضدیّة التی یوظّفها الشاعر فی النص للتعبیر عن اللاجدوى والواقع المتناقض. إذا کان الصوت فی النص الشعری له دلالات وإیحاءات محدّدة ومعهودة لدى المتلقی فإنّ الصمت تعبیر عمّا یعجز عنه الکلام المألوف بلغة وسطیّة أخرى، یرکز علیها الأدیب لنقل أفکاره ورؤاه؛ وتظهر لنا مهمّة الصوت والصمت إذا اجتمعا فی سیاق واحد متجاورین أو متداخلین أو متعاکسین. فالشاعر الحدیث أخذ یزاوج بین الصوت والصمت فی سیاقٍ واحد، عندما یشعر بعجز اللغة المعجمیّة، لیخلق لغة جدیدة یُطلق علیها "الصوصمتیّة".
الصوصمتیّة ثنائیّة الصوت والصمت فی بنیّة النص الواحد؛ وتُعد من أهمّ التقنیات الأسلوبیّة التی شکلت حضوراً واسعاً ومکثّفاً فی القصائد الحدیثة، لما لهذه التقنیّة من قیمة جمالیّة ودلالة فنیّة تعمل على إثراء النص الأدبی. وقد وظّف الشاعر الحدیث هذه التقانة الفنیّة توظیفاً فاعلاً، إذ من خلالها وجد منفذاً تشکیلیّاً صالحاً للتعبیر عن الواقع المضطرب الذی ترک أثراً عمیقاً فی نفسه. ویُعد الشاعر العراقی حبیب السامر من أکثر مجایله اهتماماً بهذا النمط الأسلوبی، إذ شکلت الصوصمتیّة حضوراً ممیّزاً فی بناء نصوصه النثریّة؛ ولفرط اهتمامه بهذا النمط، نجدها تتصدّر لتشکل عنواناً لبعض قصائد مجموعته الشعریة.
لقد کان توظیف السامر للطاقة الدلالیّة التی تمتلکها الصوصمتیّة توظیفاً متنوّعاً یتفاعل مع تنوّع تجربته من جهة، ومن منطق الترکیز الذی یحکم هذا النوع من القصائد من جهة أخرى. جاءت الصوصمتیّة فی هذا السیاق معبّرة عن الانکسار والانهزامیّة، فضلاً عن الترکیز الذی تمیّزت به، واستطاعت فتح فضاءات متعدّدة؛ مما دفعنا الأمر إلى الوقوف على نصوص دیوان "أصابع المطر" التی تزخر بهذه التقنیّة. فقد رصدنا النصوص التی وظّفت الصوصمتیّة فی هذا الدیوان، وقمنا بنقدها وتحلیلها وفقاً للمنهج الوصفی ـ التحلیلی؛ والهدف الذی نتبغیه من وراء هذه الدراسة سبر أغوار رموز هذه اللغة ودلالاتها، وکشف الأسباب التی دعت الشاعر أن یلحّ على هذه الظاهرة، ویتّخذها کتقنیّة معبّرة عمّا یدور فی جوانیته.
أسئلة البحث
فی هذه الدراسة سوف نحاول الإجابة عن الأسئلة التالیة:
کیف یتجاوز السامر فی دیوان "أصابع المطر" دائرة التجریب اللغویّ إلى التجربة الصوصمتیّة؟ کیف یشی الصمت فی هذا الدیوان بالأبعاد الأخرى للکلام؟ کیف تتجسّد الصوصمتیّة بالأشکال البصریّة؟ ما هی الأسباب التی دفعت السامر لکی یلحّ على استخدام لغة الصوصمتیّة؟
خلفیّة البحث
من خلال بحثنا عن "الصوصمتیّة" ولغتها الثنائیّة تبیّن لنا عدم ترکیز الباحثین على دراسة العلاقات القائمة بین الصوت والصمت وما تنتجه من دلالات ورؤى شعوریّة؛ ولو أنّ هناک دراسات نقدیّة ثرّة عالجت موضوع الصوت والصمت على حدة، وحاولت فک شفرات النصوص الأدبیّة ومغالیقها. ومن هذه الدراسات، رسالة ماجستیر "البنیّة الصوتیّة ودلالاتها فی شعر عبدالناصر صالح" للباحث إبراهیم مصطفى إبراهیم رجب. لقد خصّص الکاتب هذه الرسالة لدراسة دلالة الأصوات فی شعر عبدالناصر صالح، حیث قام بدراسة الدلالات المستوحاة من الصوائت والصوامت فی شعره. جاءت هذه الدراسة لتکشف عن بعض الدلالات التی تختلف نظام الأصوات، إذ باتت تحولات البنى الصوتیّة وأشکالها وتوالیها من أهمّ العوامل التی تشکل الدلالة. ومقال موسوم بـ"الصمت فی شعر زهور دکسن"، فی مجلة أبحاث البصرة للباحث جبار عودی (2013م)؛ لقد حاول الباحث فی هذه الدراسة استکشاف دلالات مفردة "الصمت" وما أرادت الشاعرة بثّه للمتلقی من خلال ذلک الاستعمال. ودراسة معنونة بـ"مدخل إلى الصمت فی النص السردی" لمحی الدین حمدی (2011م) منشورة فی العدد الثامن من مجلة کلیّة الآداب واللغات بالجزائر؛ وقد اختار الکاتب نص "صخب البحیرة" لمحمد البساطی لمقاربة الصمت؛ فقام بالتطبیق ودرس علامات الصمت فی بنیّة النص. وهناک مقال تحت عنوان "الصوصمتیّة فی شعر صدام فهد الأسدی"للباحث عباس محمد رضا (2015م) منشور فی موقع النور. هذا المقال لا یتعدى بضع صفحات، ویفتقد للتطبیق والخطة المنهجیّة، لکنّنا استفدنا من آراءه النظریة.
ومن خلال مشروعنا البحثی فی نتاج الشاعر حبیب السامر لقد تبیّن لنا حتى الآن لم تُکتَب عنه دراسة آکادیمیّة بشکل کتاب، أو رسالة جامعیّة، أو مقال محکم، فکلّ ما هنالک إطلالات نقدیة منشورة فی الإنترنت والصحف العراقیة، وقد استفدنا منها کثیراً فی الإطلاع على اتجاهاته الفکریة واهتماماته الوطنیّة. علماً أنّ "سلمان کاصر" جمع هذه الإطلالات فی کتاب لم یُنشَر بعد أسماه کتاب فی الشعر / قراءة فی تجربة الشاعر حبیب السامر، وقد تفضّل علینا الشاعر بإرسال ملف الکتاب عبر البرید الإلکترونی. أمّا إنّنا فی هذه الدراسة الموسومة بـ"لغة الصوصمتیّة فی دیوان أصابع المطر للشاعر العراقی حبیب السامر" فقد حاولنا أن نبیّن جانباً مهمّاً فی شعر هذا الشاعر وهو امتزاج الصمت والصوت معاً وتشکیل لغة وسطیّة أخرى تُعرَف بـالصوصمتیّة؛ فسعینا بقدر المستطاع أن نبیّن الدلالات والرؤى الکامنة وراء هذا المزج الفنی والمقصود.
حیاة الشاعر
حبیب السامر شاعر وإعلامی من مدینة التنّومة التابعة لمحافظة البصرة فی العراق. یحمل السامر شهادة بکالوریوس فی اللغة الانکلیزیة، وقد صدرت له خمسة دواوین شعریة. هو الآن یشغل عدّة مناصب کلّها أدبیة – ثقافیة منها مدیر إعلام شرکة مصافی الجنوب، ورئیس تحریر مجلة "مصافی الجنوب"، ومسؤول اللجنة الثقافیة فی اتّحاد ادباء وکتّاب البصرة، ومدیر تحریر مجلة "فنارت" التی یصدرها الإتّحاد.
یعدّ السامر من أهمّ شعراء الجیل الثالث العراقی، ویتمیّز شعره بالبناء الفنیّ والتقنی للتعبیر عن رؤاه ومواقفه. وقد صوّر للقارئ معاناة الشعب العراقی ومأساته بطرق حداثویّة، وبلغة وسطیّة تمزج بین الصمت المعبّر والصوت المخنوق. ولحیاة الشاعر وظروف بلده أثر جلی فی تکوین لغة الصوصمتیّة فی نتاجه، وذلک أنّ «قصیدة الشاعر فی کثیر من الأحیان ورقة لنوع الهمّ الذی یعانیه الشاعر ویکلّف به فی حیاته» (ریکان، 1989، ص 67).
تعریف الصوصمتیّة
مفردة الصوصمتیّة منحوتة من مفردتی "الصوت" و"الصمت"؛ ومعناها اقتران الصوت والصمت فی سیاق واحد؛ فحالما یوجد أحدهما فی النص یُوجَد الثانی مقترناً به، بنسب مختلفة وبدرجات متفاوتة ومستویات متعددة، فقد تکون الغلبة لأحدهما والترکیز على أحداهما دون الآخر؛ فمرّة یکون الصمت آلیّة للتعبیر ومرّة یکون مقدرة للتعبیر عمّا یعجز الکلام عن بیانه، والمهم فی هذا المجال انّه لا ینعزل عن الصوت أبداً (رضا، 2015، http://www.alnoor.se/article.asp?id=284752).
لاشک أنّ للصوت والصمت المکوّنین للصوصمتیّة دلالات ومفاهیم خاصة، فکلّ واحدٍ منهما یؤدّی دوره الخاص فی نقل المعنى للمتلقی؛ فالصوت یعنی الملفوظ من الکلام ویعبّر عن المعنى بکلمات محدودة، والصمت عالم مکتنز غامض ذو دلالات متعدّدة مفتوحة على الإیحاء والتأویل والتخییل، «حتى بعد الانبعاث الصوتی فالکلمات لا تستوعب الأفکار والإحساسات والشعور جمیعاً، وإنّما بقدر ما یتشکّل فیها المعنى على وفق ترکیبه، والصمت یکسر قیود التعبیر لینطلق إلى آفاق المعنى غیر المحدود الذی یضیفه المتلقی للإفادة، وتجدک أنطق ما تکون إذا لم تنطق الأمر صراحة» (الجرجانی، 1987، ص 112)، ذلک أنّ الرأی والاعتقاد والفکرة قول من غیر صوت أی إنّه صمت (ابن جنی، 1990، ج1، 24). وعندما یجتمع هذان الضدان فی نص واحد، یشکلان لغة جدیدة وسطیّة تجمع بین الأمرین، وقد تکون هذه اللغة أقرب إلى واقع الشاعر وظروفه، فاقتران الصوت والصمت یؤدی إلى تشکیل الصوصمتیّة وهی لغة وسطیّة تجمع بین دلالات الصوت والصمت معاً.
وقد تتجسّد الصوصمتیّة فی القرآن الکریم کثیراً وفی هذا المقام نذکر نموذجین: ]إنّ الله کان سمیعاً بصیراً[ (النساء/ 58)؛ فـ (السمع) هو صوت، و(البصر) صمت. والآیة التالیة ]وإن یکاد الذین کفروا لیزلقونک بأبصارهم لما سمعوا الذکر ویقولون إنّه لمجنون وما هو إلّا ذکر للعالمین[ (القلم/ 51)؛ فـ(لما سمعوا) صوت، ثم جملة (یزلقونک بأبصارهم) التی تأتی بعد استماع الذکر (صمت)، و(یقولون) صوت، والمقول (إنّه لمجنون) صوت لسان وصمت قلب واعتقاد.
صوصمتیّة العنوان
إنّ بنیة العنوان بنیة شدیدة التعقید والخصوصیّة، وأصبح الاهتمام بها من الأمور الأساسیّة فی تحلیل أیّ نص أدبی؛ فهو لم یعد تلک البنیة الجامدة التی لیس لها دورٌ فی الهیکل البنائی للقصیدة، بل تحوّل إلى ثیمة مکثّفة باعتبارها عتبة النص واللبنة الأساسیّة. على الرغم من العنایة الکبیرة التی أولتها النصوص الحدیثة لبنیّة العنوان، إلا أنّ الأمر فی النص الصوصمتی مختلف، إذ یقوم العنوان بوظائف متعدّدة عن طریق فتح دلالات کثیرة.
العنوان أول مثیر أسلوبی تصطدم به عین المتلقی لکونه عنصراً فعالاً فی بنیّة النص حیث یحدّد هویّة العمل الأدبی الذی ینضوی تحته، وله علاقة وطیدة وترابط دلالی مع المتن، فیساعد المتلقی على فهم النص وتأویله؛ و«لذا لا نستطیع أن نفهم بنیّة العنوان وماتحمله من إشارات ودلالات وإیحاءات، إلا من خلال معاینة بنیّة المتن وفهم الترابط الدلالی الموجود فیما بینهما» (المرسومی، 2015، ص 160).
حاول السامر فی دیوان "أصابع المطر" تکنکة العنوان وتفجیر طاقاته الصوصمتیّة لصالح مقصده ورؤیته الفنیّة. وردت عتبة العنوان «أصابع المطر» جملة اسمیّة متکوّنة من خبر لمبتدأ محذوف تقدیره (هذه)، والأصابع مضاف، والمطر مضاف إلیه؛ وإضافة الأصابع للمطر أعطته دلالات حسیّة وجسدیة. «تعدّ الأصابع وماتوحی إلیه من معانٍ خفیّة وظاهرة من المجازات المهمّة لأنّها بؤرة المکنون الداخلی المعبّر عنها حسیّاً، فهی أی الأصابع معمل إنتاجی لإرهاصات نفسیّة داخلیّة إیمائیّة» (عبدالواحد، د.ت، ص136). الأصابع فی هذا العنوان، تدلّ على الإشارة والإیحاء، وعدم التکلّم والاعتماد على لغة الجسد؛ فهی فی هذا السیاق تمثّل الصمت.
وقد استحضر السامر المطر کمشارک فاعل فی تأریخیّة الذات؛ فالشعر العراقی الحدیث واصل رحلته الطویلة مع مفردة المطر، باعتبارها ثیمة أساسیّة أو ثانویة فی أغلب النصوص؛ فقد تعدّدت أسباب ظهور هذه الثیمة وتمایزت دلالاتها.
تساقط المطر یخلّف صوتاً یدغدع الأسماع، وینقل رسالته للمتلقی. وقد قام الشاعر بتشخیص المطر وأنسنته، فأضاف له "أصابع" باعتباره کائناً حیّاً، وفی النص التالی یکمّل تشخیص المطر قائلاً:
«تمنح عطرها/ وتستدل بمطر ینقر نوافذنا» (السامر، 2012، ص71)
ففی هذا المقبوس عبّر الشاعر عن أنسنة المطر وقام بتشخیصه، فتصوّر له أصابع، وذلک من خلال نقره النوافذ، فعملیّة النقر تتمّ عبر الأصابع، فلا یخفی إضافة الأصابع إلى المطر تدلّ على البُعد الصوصمتی الذی یزاوج بین الصوت (المطر) والصمت (الأصابع).
استنطاق الصمت وامتزاجه بالصوت
الصمت هو السکوت وعدم البوح؛ وقد تحدّث علماء اللغة والبلاغة القدامى عنه واصطلحوا علیه بـ"الحذف"، ونظروا إلى الحذف نظرة إکبار لأهمیّته فی البلاغة وبالتحدید فی مبحث الإیجاز. ویبدو أنّهم یمیلون فی أحکامهم على السکوت والإفصاح إلى بلاغة الإیجاز؛ واستحسان الاختصار ینهض على حذف بعض الکلام (حمدی، 2011، ص 5).
الصمت باعتباره خطاباً یتّخذ هیئتین فی النص الحدیث ویظهر فی صیغتین متداخلتین أو متجاورتین أو متآزرتین، فمنه لون مرتبط بالنص المطبوع ویظهر فی نقص الحکایة، والإخفاء، والکلام المقتضب؛ ومنه لون آخر هو البیاض المکانی البصری ویُلحظ على مساحة الصفحة فارغاً خالیاً من الکتابة (السابق، ص 11)، فالصمت فی مجال اللغة والخطاب یمکن استثماره فی النص، لأنّه منجز باللغة، واللغة متینة الصّلة بالنطق من جهة، وبعدم البوح من ناحیّة ثانیّة.
جمالیات الصمت تهدف إلى کشف ما هو غائب ومطموس فی فضاء النص؛ فالصمت انحباس للصوت ولیس عدماً کلامیّاً. «أدبیة الصمت هی فی صمیم أدبیة الکلام وإن اختلفت عنه فی الماهیة وسیاق الفعلیة اللغویة، لأنّ الکلام هو، فی الواقع من الصمت وإلیه شأن صلة المعنى باللاّمعنى. وبالصمت یضحی الکلام قادراً بالفعل على التکلّم، شأن الفراغات الصامتة فی العمل الموسیقیّ یُحوّل الصوت الموسیقی إلى فجواتٍ دالّة بالکثافة السمعیة والکثافة السمعیة الناطقة بتلک الفجوات» (الکیلانی، 2077، ص 87).
لا شک أنّ الصمت الذی یظهر فی النصوص الحدیثة بإمکانه أن یؤدّی دور الصوت بطریقة أبلغ وأوقع فی القلب، فالصمت لغة لم تُکتشَف بعد، ولم یُزح الستار عن مکنوناتها بعد؛ ویکون تأثیره البلاغی أشدّ وقعاً وتأثیراً عندما یقترن بالصوت؛ فهناک صور شعریّة جمیلة وموحیّة تدلّ على موهبة الشاعر العالیّة، إذ یقترن الصمت بالصوت فی تعبیر لطیف، منها:
«الآن باستطاعتک أن ترمّم الخرس/ وتأخذ اشتعال الکلام/ لا امراءة تنوح قربک/ ولا ید تومئ لک بالرحیل» (السامر، 2012، ص 23)
فتعبیر "ترمّم الخرس" یُعتبر استنطاق للخرس/ الصمت، و"اشتعال الکلام" صوت یرتفع لیکمّل صورة الاستنطاق؛ کما أنّ "نوح المرأة" یُعتبَر صوتاً، و"إیماء الید" صمتاً. فقد اتّخذ الشاعر من الصوصمتیّة فی هذا السیاق أسلوباً للتعبیر عن حالة التمزّق والتناقض اللذینِ یعانیهما، حیث ینهض النص على تعانق صور صامتة وصائتة، لیشکل لغة صوصمتیّة ذات طاقة تعبیریّة ودلالیّة کبیرة تخدم الفکرة. وفی المقبوس التالی یستنطق الشاعر "الغفوة" التی تتّصف بالسکینة والاستقرار وعدم الحرکیّة:
«على ضجیج غفوة/ فتحنا أبصارنا فی وحشة البراعم وفراغات المرایا/ وجدنا / غربالاً ناعماً/ یرشح ثلجاً» (السابق، ص 25)
هذا النص ینحو منحنى استعاریّاً هجائیّاً واضحاً تجاه عالم یسوده الفساد ویتملّق فیه الفاسدون والوشاة، فتصوّر الشاعر للغفوة ضجیجاً وصوتاً مرعباً وسط هذه الصراعات. فیقصیدة "ولا على المرآة حرج" یقول السامر:
«أنت .../ کاتمة سری، حافظة عهدی/ کم بکیت وأنت تلتقطین سخونة دمعی/ وکم شکوت انکساراتی» (السابق، ص 18)
فی هذا المقبوس، "السر" هو الصمت وعدم البوح، و"المرآة" تعکس حقیقة المسکوت عنه: (أنت/ سری/ حافظة عهدی)؛ حرکیّة الحوار مع المرآة بمثابة الحصول الاستنطاقی لضمیر النتیجة المقطعیّة فی القول الآخر (وأنت تلتقطین)، فالشاعر کان یحاول من خلالها الإفصاح عن هویّة المتکلّم، وذلک بموجب استنطاق خلفیات العلاقة مع تلک المرآة. وصوت المرآة له دور فی تجسید تصوّرات وهواجس الشاعر، وله دلالة الإفصاح عن خلجات الشاعر ومکنوناته.
هرطقة الصمت
الهرطقة أو الهیریزیة هی بدعة، أو مخالفة المألوف، أو الشذوذ الذی یُعاقب علیه (محمود، 2002، ص 29). تُستخدم الهرطقة فی مجالات عدّة، وإن کانت السمة الدینیّة لاحقة بها، فکل نشاز هو هرطقة، وکل مثیر للأعصاب هو هرطقة، وکل ما لا یتوافق مع السائد یُعتبر هرطقة. ولا یخفى أنّ الصمت أکبر محرض للهرطقة، وباعث لها (السابق، ص 45). الصمت بهذا المعنى، کلام مختفٍ لأسباب معینة، وسکوت معبّر فی موضوعٍ یتطلّب الکلام، فقد اختفى الصوت وبقی المعنى مطروحاً؛ فالصمت الهرطقی یثیرنا ویحرّضنا على اقتحام العالم الداخلی. تظهر أهمیّة النص الهرطقی حیث الصمت لا یکون صمتاً بقدر ما یکون حرکة داخلیّة فی النص، وإثارة فوضى فی بنیّة النص؛ فالصمت الهرطقی کالصوت ینتج من فکر ویخلّف أفکاراً لدى المتلقی. والصمت بهذا المفهوم، یُصنّف فی دائرة الصوت، ولا یعنی اللاموضوعیّة العاجزة عن الإثارة.
وما یمنح الهرطقة حضوراً متتالیاً هو ذلک الصمت المطلق فی أغلب الحالات والمواقف؛ هو صمت مکانی من ناحیة وصمت زمانی من ناحیة أخرى یحتوی الإنسان، فیتحوّل إلى رموز ودلالات مألوفة؛ فالصمت الذی یرتبط بالمکان کما جاء فی النص التالی:
«امرأة على بعد صمت من ضوء عقیم/ ترمّم/ زهرة الثیاب/ تقیم حفلةً للغیم/ تفسح لرفرفة الزهر على النافذة» (السامر، 2012، ص 29)
فهذا التعبیر یشی بالمسافة المکانیّة حیث یقال مثلاً (على بعد 20کیلومتر)؛ وفی تعبیر السامر (على بعد صمت) أراد أن یربط الصمت بالمکان، فیشکل بؤرة مکانیّة أساسها الصمت، فالصمت هنا (صمت من ضوء عقیم) یظهر لنا غرائبیّاً، والغرائبی هو الذی یثیر الإنسان، ویدهشه ویؤسره أحیاناً. وممّا زاد فی غرائبیّة النص تعبیر (تقیم حفلةً للغیم)، فهذه البنیّة تدهش العقل وتثیره؛ علماً أنّ الحفلة مصحوبة بأصوات، وهذه الأصوات المقصودة دلالیّاً تشکل بنیّة الصوصمتیّة. أمّا الصمت الذی یرتبط بالزمان فهو کما جاء فی النص التالی:
«منذ صمتین/ الغیاب معلّق ببوصلة الجمر/ وأنا أستدل بالنطق» (السابق،51)
فهذا الصمت الزمانی یُعتبر أیضاً هرطقیّاً لأنّه غیر مألوف، لکنّه فی حقیقته صمت تدمیری یمتزج بالصوت (أستدل بالنطق) عبر دلالات ورموز، ویقوم على أساس وعی ورؤیة. وامتزاج الصمت بالنطق هنا یشکل بنیّة صوصمتیّة.
وثیمة الموت تُعتبَر أکبر هرطقة صامتة فی الکون. ومصدر هذه الهرطقة هو أنّ الموت یلغی کلّ ما عداه ویواجهنا دون أن یتکلّم (محمود، 2002، ص 47)، فقیل فی وصف الصمت المخیف والعمیق بأنّه کصمت المقبرة؛ وقد ظهر هذا النوع من الصمت الهرطقی فی نصوص السامر:
«خذ ما تبقّى من نسغ الحروف/ وضع بیاضاً/ فی خرائط عوزک/ للشجر البکر/ أهکذا/ تصمت إذاً الحرکات/ فی حفرة الموت الآفل» (السامر، 2012، ص 22)
ففی حفرة الموت المظلمة یخیّم الصمت الهرطقی، وتفقد الحروف معانیها ودلالاتها، وتظهر مساحات البیاض الفارغة لکی تعبّر عن الصوت المکبوت، فالهرطقة حرکة داخلیّة تثیر النص، وتبعث فیه معنى جدید، وتمنحه أفقاً أکثر انفتاحاً ورحابة، وخصوبة، کما أنّها تثیر المتلقی وتحرّضه على اقتحام العالم الخارجی. وفی ما یلی یقول الشاعر:
«أنت میت یا هذا!/ لا/ صوت یتلاشى مع أبخرة ملوّنة / رئة اغتراب/ أنا حرةِ إذن!» (السابق، ص32)
الموت هنا یعنی الصمت، وتلاشی الصوت؛ فاقتران الصوت بجانب مهم من جوانب الصمت وهو الموت لم یأتِ من فراغ، بل تجربة اهتمّ بها الشاعر لیثیر المتلقی ویدخله فی عالم الصوصمتیّة؛ عالم التناقض والثنائیّات. ولعل الشاعر لم یختر هذه الظاهرة من تلقاء نفسه بل ظروف البلد هی التی فرضت علیه هذه الطریقة من التعبیر، فاستغلّها لیبثّ لواعج مجتمعه عبرها بتعبیر بیانی لطیف وصور تنأى عن السطحیّة والتقریریّة.
الأصوات والعلاقات الصامتة فی النص
لقد وظّف الشاعر الصراع بین الصوت والصمت توظیفاً فاعلاً بما یخدم فکرته، بحیث یکون مرآة تستطیع أن تعکس ما فی أعماق وجدانه. یرد فی دیوان "أصابع المطر" الکثیر من ألفاظ الأصوات المقترنة بالصمت، مستخدمة حسب الحاجة ووفق ما یقتضیه السیاق، والجدول التالی یوضّح بعض مواطن ورودها:
الصوت |
العلاقة الصامتة |
الشاهد |
الصفحة |
صیحة |
المقبرة |
یسرق زهرته الأولى من المقبرة/الحارس یقظ/یطلق صیحة |
5 |
صراخ |
عصا |
المراقب یعد التلامیذ/عصا المعلم/صراخ الحارس |
7 |
أتهجّى |
لم أقصد/مبتورة |
لم أقصد أن أتهجّى بلغة المسرح حکایة مبتورة |
10 |
الضجیج |
تتأوّه لیلاً |
یمضی فی انبهارات الضجیج/وأنت تتأوّه لیلاً |
10 |
تساؤلات |
سیتأجّل |
سیتأجّل الإعلان عنها وسط تساؤلات الأصدقاء |
11 |
الضاج |
بریق الخفق |
أدرکت أننی أخلصت للقول المهیمن/الضاج ببریق الخفق |
12 |
تحدّثنی |
إیماءات |
تحدّثنی کل صباح بإیماءات مصقولة |
18 |
ضاجّة |
هادئة |
رحیمة وهادئة کانت/ضاجّة بالحنین |
19 |
تردّدین |
لم أقلها بعد |
تردّدین قصائدی التی لم أقلها بعد |
20 |
الکلمات |
تیبّست |
یا من تیبّست على شفتیک الکلمات |
21 |
الکلام |
الخرس |
باستطاعتک أن ترمّم الخرس/وتأخذ اشتعال الکلام |
23 |
ضجیج |
غفوة |
کنت فی مهب الریح/على ضجیج غفوة |
25 |
تقرع |
صامت |
فی لیل صامت/هی الآن تقرع أجراسها |
36 |
الرّنات |
صمت |
الرنّات الملحّة/تخترق صمت المکان |
49 |
یرنّ |
الصمت |
حین تسمع جوالاً یرنّ قربها/تحتال على الصمت |
50 |
ضجیج |
هادئة |
الحکیمیّة هادئة إلا من ضجیج مکائن معمل الطحین |
57 |
همس |
أمسکت |
أمسکت عن الکلام/لتوّزع مفاتنها بهمس الریبة |
65 |
تأوّهات |
مخنوقة |
تطلق تأوّهات مخنوقة |
66 |
الاحتجاج |
الصامت |
والنهر الصامت/الصامت/الراکد/یعلن احتجاجه |
81 |
قهقهات |
صفاء |
وأنت تکسر صفاء الریف بهقهاتک |
85 |
الکلام |
تباطأنا |
وقتها/تباطأنا بالکلام |
87 |
الکلمات |
تتکسّر |
وبدأت الکلمات تتکسّر |
87 |
الحفیف |
لم نعد نسمع |
لم نعد نسمع الحفیف |
92 |
فهذه الأصوات الممتزجة بالصمت فی الدیوان کـ(الصخب، والصراخ، والصیحة، والضجیج)، إنّما ترد لتضفی نوعاً من التصویر الفنی الدقیق للمشهد الذی ترد فیه موحیّةً بما یعتمل فی داخله من تداعیات، ومرتبطة بمشاهد القتل والدمار التی تعرّض لها الشعب العراقی فی ظل الاحتلال والصراعات الداخلیّة.
استخدم الشاعر هذه الأصوات فی دلالات مختلفة أشهرها بلاغة الصمت وأفضلیته على الصوت أیّاً کان، وأقلّها شهرة الإیحاء بالخوف المطبق الناشىء عن انعدام کلی فی الحرکة، فنص الدیوان کما یُشاهد فی الجدول، أیقونی بصری سمعی أی صمتی صوتی بامتیازٍ خاص من أوّله إلى آخره، وبآلیات وأسالیب مستحدثة. فی هذا الجدول یقف الکلام فی جهة ویقابله الصمت من جهة أخرى فیتخاصمان، وإذا بهما یتآزران ویتساندان فی الداخل لإثبات الخصومة الساکنة فی النص.
الجوقة (الکورس)
الجوقة أو الکورس إحدى مظاهر تعدّد الأصوات (البولیفونیّة)، وقد اکتسبها الشعر عن المسرح، واستخدمها الشاعر الحدیث فی تغییر مستوى الخطاب وتعدّده فی نصه وتوجیه أفکاره ورؤاه. والشاعر العراقی حبیب السامر درج على استعمال هذه التقنیّة فی شعره، وإن کان وجودها فی دیوانه "أصابع المطر" لا یرقی بها إلى مستوى الظاهرة أو السمة الأسلوبیّة، لکنّها تبقى قابلة للرصد والاستشهاد.
الجوقة کما یعرّفها إبراهیم حمادة «الجماعة من الناس، والجمع أجواق. یقال جوّق القوم أی ارتفعت أصواتهم [...] وتشترک الجوقة فی التمثیل: بتعلیقها على الأحداث، أو بتحاورها مع الممثّلین، أو بصمتها المعبّر» (حمادة، 1985، ص91). یتمّ فی الجوقة تداول القول الجماعی، وما یهمّنا فیها هنا تقاطعها مع الصمت؛ فمن هذا القبیل فی شعر السامر:
«الکل یتحرّى عن نفسه / یمضی فی انبهارات الضجیج / وأنت تتآوّه لیلاً / وتصرّ على ارتکابها فی الصباح / بشکل متنکر لحالة الوجد» (السامر، 2012، ص 10)
إنّ الموقف هنا موقف فکری جمعی ینطلق بصوت عالٍ ویدلّ على حالة الرفض والانبهار؛ فالشاعر فی هذا النص یغایر بین الأصوات/ وجهات النظر، ویقف بدوره راویاً وواصفاً؛ وتأتی مجموعات الأصوات معبّرة عن أفکار مختلفة، فکأنّنا أمام عرض روائی مسرحی، وقد أدّت الجوقة جزءاً من هذه المهمّة. والشاعر سلّط الکلیّة على النص لتوحید صوت الجوقة. ولا یخفى على المتلقّی أنّ "التأوّه لیلاً" و "الشکل المتنکر" یدخلان فی حیّز الصمت، ویشکلان صراعاً قائماً بین الصوت والصمت.
یوظّف الشاعر ثیمة الصوت باعتبارها تقنیّة فنیّة؛ فقد طغت المفردات الصوتیّة فی اللوحة الشعریّة التالیّة وزادتها جمالاً وألقاً:
«جدران النبض ترتعد / ینهمر الصدى کلاماً یختلط بصوت القرابین» (السابق،31)
فالشاعر اتّخذ الصوت دالّة ذاتیّة وواقعیّة فی تشکیل همّ جماعی، فجاء الصدى مدویّاً ممزوجاً بصوت القرابین. رغم أنّ الشاعر أحد هؤلاء القرابین لکنّه ینفصل عن أصواتهم وینبری حاکیّاً راویاً عن هذه الأصوات. "الصدى" هنا مرجع للمأساة، و"صوت القرابین" یمثّل احتجاجاً وشکوى. تتحوّل القرابین إلى جوقة، واختلاط الأصوات أمر متعارف علیه فی المسرح. یستمرّ الشاعر فی حرصه على تأدیّة الوظیفة الدلالیّة للنص الشعری، فیعطیه خصوصیة یتمیّز بها من خلال المصادر الصوتیّة التی یستعملها والتی تبیّن مقدرته فی التعامل مع الأصوات وهو یشکل الصورة بعنایّة ووضوح فکما یبدو فی أغلب نصوصه الشعریة مولع بخلط الأصوات بهذه الطریقة وبشکل ظاهر للمتلقّی عند استقراء مجهوده الشعری.
صوصمتیّة الأشکال البصریّة
لم تقتصر تجربة الشاعر على الصوصمتیّة المنطوقة فحسب، بل تتعدّى إلى الصوصمتیّة المتجسّدة بأشکال بصریّة تُوحی بالمعانی عبر ملء فضاء النص بتشکیل بصری معیّن. ومن أبرز التحوّلات الشکلیّة للصوصمیّة، التنقیط، والتفتیت، والتدرّج الکتابی (التموّج)، والشکل الهندسیّ، فهذه الأشکال البصریّة فی جسد النص، «ائتلاف شعوری تواصلی یربط طرفی التلقّی أی الشاعر (المرسل) والمتلقی (المرسل إلیه) من خلال الرسالة (النص). وهذا الجانب الإیکویّ (نسبةً إلى الباحث أمبرتو إیکو) فی التواصل تظهر مهمّته حسب القدرة التأویلیّة للمتلقّی وبراعة الشاعر فی إیصال الرسالة النصیّة» (راجع؛ إیکو، 2005، ص 18).
إنّ للتشکیل البصری قیمة جمالیّة ودلالیّة، إذ إنّه یحاول تدمیر سنن التلقّی التی اعتادها المتلقی لفترة طویلة من الزمن. وتحقیقاً للصدمة الشعریة وما تنظّمه الانزیاحات البصریّة، وإخراج المتلقی من الإیستاتیکیّة والرکود، فقد سعى الشعراء الحداثیون إلى أن تکون نصوصهم البصریّة قادرة على امتلاک القدرة الکامنة فیها لتحریک الملتقّی، فالقارئ هو منتج للطاقة الدلالیّة الکامنة فی النص، ویصبح النص شراکة بین الشاعر والقارئ؛ فالطاقات التجریبیّة فی النصوص التی توظّف الکتابة البصریّة تساهم فی إعطاء النص فضاءً أوسع، فالمتلقی سیکمّل الحدیث ویسهم فی خلق النص ویشارک الشاعر فی عملیّة الإبداع ویملک حریّة أکبر فی التأویل والتأمّل معاً (حسین، 2015، ص 2).
التشکیل البصریّ یمثّل وجهاً آخر من وجوه التعامل الشعری مع الصمت، والمقصود به أن یُدرج الشاعر صور بصریّة وحیّزات طباعیّة تتخلّل النص فی مواطن مخصوصه داخل القصیدة وأن یکون الصمت علامة تواصل لفظی فیه اضطراب. ومن أهمّ هذه الأشکال الصوصمّتیة التی وردت فی دیوان "أصابع المطر"، التنقیط، والتفتیت، والتدرّج الکتابی (التموّج)، والشکل الهندسیّ، فهذه التقنیات الصامتة تعتبر أبلغ من الصوت، فهی تمثّل جانباً مسکوتاً لا یقدر الشاعر التعبیر عنه بلغةٍ معجمیّة لعجزها وعدم استیعابها للمعانی التی تدور فی جوانیّته.
التنقیط
التنقیط مجموعة من النقاط السود یستخدمها الشاعر بجوار الکلمات سواء قبلها وبعدها أو بین کلمة وأخرى داخل سطر واحد. و«التنقیط کنایة بصریة عن دال ( کلمة أو جملة) مغیب بنحو مقصود من قبل الشاعر تجنّباً للحساسیة الدلالیة التی یمکن أن یثیرها ذلک الدال لو ظهر علنیاً فی القصیدة التی حذف منها ووضعت فی مکانه مجموعة من النقاط کعلامة على الحذف أو بمعنى آخر کعلامة على الصمت» (یاسین، 2005، ص 172)؛ والصمت «ترک الکلام مع القدرة علیه» (عبدالرحیم، 2000، ص 9) ومن التکنیکات الموظّفة لدى السامر استخدامه للتنقیط/ الصمت للتعبیر عمّا فی نفسه من الیأس والحزن والحیرة، وتنظیم إیقاع الصوت والصمت، والمنطوق وغیر المنطوق، والمرئی وغیر المرئی:
«النهارات تتعاقب .. ویمر بنا اللیل.. ثقیلاً فی الفلوات، ونحن نزحف من مفازة إلى أخرى» (السامر، 2012، ص 92)
فهذا النثیث النقطی یدلّ على الاستمراریّة والحرکة البطیئة، فالنهارات تتعاقب ببطء، واللیل یمرّ بثقلٍ؛ والزحف فی المفازات أیضا یمثّل بطء الحرکة والتقهقر. فی هذا الرسم تتعطّل دلالة القول وینحبس الصوت الناطق، ویجد القارئ نفسه مجبراً على فک مغالیق النص.
الشاعر لا یغلق النص أمام المتلقّی، فیتعذّر علیه التأویل بل ینثر النقاط التی یمکن أن تسهم فی قراءة المحذوف، کما یوظّف الشاعر فی النص التالی النثیث النقطی للتعبیر عن الصوت المحذوف:
«القوم المغادرون نحن..../ ترکنا مدنا خلفنا فی الأقاصی..../ ترکنا الماء/ وحین أومأت الشمس لنا بالرحیل تهیأنا..../ ضربنا طویلاً فی التیه» (السابق، ص92)
هذه النقاط تعطی فرصة دلالیّة لبصر المتلقّی، من أجل اقتراح أو تصوّر أو وضع احتمال لسلسلة إجابات، أو أنّها تمثّل فرصة تأمّل من أجل أن یتصرّف؛ فهی مساحة تفکیر وتأمّل تجسّدت على الورق فی شکل فراغ نقطی. مداخلة الصمت للکلام وتوزیع النقاط فی فضاء النص یضفی شکلاً جدیداً معبّراً فی بناءه یشی بدلالات ورؤى قابلة للتأویل والتأمّل، فهذا الصمت المنقّط یُعتبَر وجهاً من الوجوه انحباس الصوت الشعری.
التفتیت
المقصود من التفتیت هو «تقطیع کلمة أو مجموعة کلمات إلى أجزاء متعددة داخل القصیدة، فهو عدول بصری فی طریقة الرسم الکتابی العادی للمفردات الشعریة، تعبیراً عن البعد النفسی لدلالة المفردة المقطعة فی القصیدة» (محسنی وکیانی، 2013، ص 90)؛ وتعدّ هذه الظاهرة مظهراً تعبیریاً «یکشف عن فعل داخلی حیّ یتّجه نحو التعبیر عن حرکة تتصف ببعض الانسجام والتشکیل فی اتجاه حرکی واحد على صعید الدلالة والأسلوب» (السابق، ص 91). إنّ اخراج الکلمة بالتقطیع یصیّر النص الشعری على صلة وطیدة بانحباس الصوت، وتعذّر النطق وإجهاد المتکلّم. وقد استخدم السامر هذا الأسلوب فی نتاجه الشعری:
«القمر الساکن/ یفشی سر الدکناء/ على أفق الفنارات/ تطفو أصابع الأرض الغرقى/ تشبثنا طویلاً/ بجنة الفجر/ العطر الـ
م
ت
س
ا
ق
ط
على تجاعید أوجاعنا/ یسرد الصمت المکان/ التماثیل؛/ تنجذب خلاصات کآبته/
ت
م
و
ج
فی أقداح الکهولة بیاض القیامة/ واختلاط الصرخات»(السامر، 2012، ص 61و62).
استخدم الشاعر فی هذا النص التفتیت، وجعله یتفجّر على نحو مرکز وکثیف، بحیث یعطی للمتلقی فرصة للتأمّل. تفتیت مفردة "متساقط" بصورة مائلة یدلّ على السقوط شکلیّاً، فکأنّ الشعر ینطق هذه المفردة وهو فی حالة سقوط. وتفیت مفردة "تموج" تدلّ على الموج والتدحرج الرأسی. فی هذا النص فضلاً على الشکل البصری، هناک مؤشرات أخرى للصوصمتیّة کـ"إفشاء السر"، و"اختلاط الصرخات، و"سرد صمت المکان".
التدرّج الکتابی (التموّج)
یعد التموّج فی الصفحة أمراً مهمّاً لإنتاج فضاء شکلی موحٍ وتقدیم دلالات أیقونیّة فی علاقته بالسیاق. وقد لجأ الشاعر الحدیث إلى الإفادة من تموّج الکلمات داخل النص، لیثیر تأمّل المتلقّی، ویلفت انتباه؛ فالنص المتموّج فیه حرکة واضطراب، وفیه صمت یشی بصوت مکبوت، وقد استخدم السامر هذا الأسلوب فی نتاجه الشعری للتعبیر عن الصراع النفسی والاضطراب:
«خفق خطى
اضطراب
والنهر الصامت
الصامت
الراکد
یعلن ساعة احتجاجه
من تشابک الضوء مع أجساد المارّة» (السابق، ص81)
بلغ النص قمّة التدرّج فی مفردة "الراکد" التی تشی بالإیستاتیکیّة وجمود النهر الصامت، وتکشف عن فکرة الدلالة اللسانیّة، فیتصاعد معها التوتّر والقلق، ثمّ یصطدم القارئ بعدها برجعة تعلن ساعة احتجاج واندفاع هذا النهر الصامت؛ فبعد فاصل من الصمت، یرفع الشاعر صوته ویعلن الاحتجاج، وفی هذه المنطقة الشعریّة نجد أنّ التعب والإرهاق بدا واضحاً فی تمکنه من الشاعر.
الشکل الهندسی
حظیت الأشکال الهندسیّة بعنایّة واسعة، وذلک عن طریق إدخالها فی بنیّة القصیدة کأیقونة دلالیّة تعبّر عن مدلول معین، والدافع وراء ذلک الضیق الذی یشعر به الکاتب تجاه سلطة اللغة، ومحاولة استثمار حاسّة البصر/ العین لإضافة بنیّة دلالیّة (حسین، 2015، 5)؛ فالشکل الهندسی یستطیع بلمسة خفیفة أن یضفی مفاهیم کثیرة إلى البناء الشعری عبر رسم لوحات مختلفة، فها هو السامر نراه یتّجه إلى الهندسة الشکلیة للتعبیر عن أغراضه، وهی التعبیر عن حالته النفسیة ومشارکة المتلقّی فی وجعات نفسه وآلامها وبیان ما یؤذیه:
«بائعة القیمر
حملها الثقیل
هیأتها، قوامها
الأطباق متراصة
أطباق ....
أطباق
أطباق
القیمر لذیذ» (السامر، 2012، ص 54)
ففی هذا النص، النقاط تدلّ على کثرة الأطباق، وتکرار المفردة بهذه الهیئة تدلّ على تقاطر الأطباق المتراصّة وترتیبها، فهی سلسلة من الطبقات المتتابعة. عندما یصطدم الشاعر بالواقع/ العالم الخارجی ویفقد القدرة على مواجهة المفاجآت الإنسانیّة، ینسحب إلى عالم آخر هو العالم الداخلی الذی یعید إلى کیانه الطفولی، فتظهر إسقاطاته النفسیّة لوحات صمت معبّرة، نتأمل من خلالها البوح الهادئ أحیاناً والضاجّ أحیاناً أخرى القائم على مدلول فکری ضمن مضامین دلالیّة.
الخاتمة
-الصوصمتیّة من أهمّ التقنیات الأسلوبیّة التی شکلت حضوراً واسعاً ومکثّفاً فی القصائد الحدیثة، لما لهذه التقنیّة من قیمة جمالیّة ودلالة فنیّة تعمل على إثراء النص الأدبی.
-وظّف الشاعر الحدیث هذه التقانة الفنیّة توظیفاً فاعلاً، إذ من خلالها وجد منفذاً تشکیلیّاً صالحاً للتعبیر عن الواقع المضطرب الذی ترک أثراً عمیقاً فی نفسه.
-لغة الصوصمتّة لغة وسطیة ثنائیّة تجمع فی طیّاتها بین الصوت والصمت للتعبیر عن حالات ومشاعر متناقضة، وتشی بروح الانکسار والانهزامیّة.
-یعقد السامر بین الصمت والصوت صلة ممیّزة، فالصمت عنده یُعدّ جزءاً لا ینفصل عن الکلام، وقد یکون تنفّساً وانتظاراً، أملاً أو حزناً، سؤالاً أو تأمّلاً، فکراً أو صراخاً، فالصمت انحباس للصوت ولیس عدماً کلامیّاً.
-لقد بدت لنا مفردة "الصمت" فی دیوان "أصابع المطر" مهیمنة على قاموسه الشعری بشکل واضح وجلی. والصمت یمثّل لدى الشاعر لغة خاصة، فیتحوّل إلى ضجیج وأصوات مدویّة، ویکشف عن مکنونات الإنسان.
-استخدم حبیب السامر "الصمت" استعمالاً مجازیاً لیعبّر عن حالة التناقض والتمزّق، وعن حالاته النفسیّة وإسقاطاته الروحیّة فی مواجهة اللاجدوى. وفی ظل الظروف القاسیّة التی تسود العراق، فالصوت عند الشاعر یمثّل العجز والخواء، ویصبح عاجزاً عن إیصال الفکرة، فیمتزج مع الصمت ومدلولاته لتتشکل لغة ثالثة (صوصمتیّة) أکثر إیحاءاً وعمقاً.
-تظهر أهمیّة النص الهرطقی حیث الصمت لا یکون صمتاً بقدر ما یکون حرکة داخلیّة فی النص، وإثارة فوضى فی بنیّة النص؛ فالصمت الهرطقی یثیرنا ویحرّضنا على اقتحام العالم الداخلی، وهو کالصوت ینتج من فکر ویخلّف أفکاراً لدى المتلقی.
-لم تقتصر تجربة الشاعر على الصوصمتیّة المنطوقة فحسب، بل تتعدّى إلى الصوصمتیّة المتجسّدة بأشکال بصریّة تُوحی بالمعانی عبر ملء فضاء النص بتشکیل بصری معیّن.
-من أبرز التحوّلات الشکلیّة للصوصمیّة، التنقیط، والتفتیت، والتدرّج الکتابی (التموّج)، والشکل الهندسیّ، فهذه التقنیات الصامتة تعتبر أبلغ من الصوت، فهی تمثّل جانباً مسکوتاً لا یقدر الشاعر التعبیر عنه بلغةٍ معجمیّة لعجزها وعدم استیعابها للمعانی التی تدور فی جوانیّته.