دراسة أسلوبيّة للخطبة الشقشقيّة

نوع المستند : المقالة البحثیة

المؤلفون

1 * أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة طهران؛ فرديس فارابي (الکاتب المسؤول).

2 طالبة مرحلة الماجستير في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة طهران؛ فرديس فارابي

المستخلص

لقد احتوت الخطبة الشقشقيّة على أسلوبيّة ممتعة فقد تضمّنت القيم اللغويّة وبُعدها الدلالي، کما تضمّنت القيم الترکيبيّة وبعدها الترکيبي، وکذلک احتوت على العلاقات المتداخلة في وحدة النصِّ وأبعادها في السياق، أو ما يطلق عليه "علم المناسبة"، وباتّحاد النصِّ وأبعاده تمکنّا من الوصول إلى القيم الجماليّة وبعدها التأثيري بسبب جمال النصِّ، وأسلوب الخطبة.
 إنّ هذه المقالة تتضمن دراسة أسلوبية للخطبة الشقشقيّة بمستوياتها الأربعة؛ و هي الصوتي، والصرفي، والترکيبي، والدلالي. وذلک لأهميتها في الدراسة الأسلوبيّة، فالخطبة مليئة بالمحسنات البديعيّة، وهو ديدن أمير البيان u في خطبه، فهي تستوقفک في کلِّ موقف، بل في کلِّ لفظة تجذبک نحوها لما تمتلک من القيم اللغويّة والجمالية.
ومن النتائج التي توصّل المقال إليها: الاهتمام بدور الحروف ودلالاتها، و أيضا الکشف عن المستويات اللغويّة لما تحوي من جماليّات عالية لاسيما في استعمال الزمن ، والإحالة الضميريّة ، وجموع الکثرة، وکذلک وحدة النصِّ الذي احتوى على التراکيب اللغويّة العميقة المضامين، بل إنّ استعمال الإشارة أو التلويح في الخطبة هو أجمل ما توصّل إليه البحث. والمنهج المتبع في البحث هو المنهج الأسلوبي الذي يعتمد على دراسة النصوص على المستوين اللغوي والأدبي.

الكلمات الرئيسية


عنوان المقالة [English]

Stylistic study of the sermon Alshqshqih

المؤلفون [English]

  • sadeq fathi dehkordi 1
  • Hyam Tomeh motlak 2
1 Assistant Professor, University of Tehran, Pardis Farabi
2 MA Student, University of Tehran, Pardis Farabi
المستخلص [English]

I've included the sermon Alhqhqih to study the stylistic fun, included the language of values ​​and then semantic, also included compositional values ​​and then synthetic, and also contained the interrelationships in the unity of text and dimensions in the context, or the so-called B (the appropriate flag), and the Federation of text and dimensions were able to access to aesthetic values ​​and then impressionist because of the beauty of the text, style sermon.



This article includes Drashoslobah four levels of speech Alshqshqih, a voice, morphological, structural, and semantic; and that of their importance in the stylistic study, Valkhtabh filled Bamahsnat Alibdieih, which didn Amir statement, peace be upon him in his speeches, they Tstoagafk in every position, but in every word attracts you towards what possessed of linguistic values, and aesthetic.
It is the findings of the article are:
Attention to the role of the characters and their implications, and also detect the linguistic levels, to contain the high aesthetics, particularly in the use of time, and the assignment of conscience, and the masses of abundance, as well as the unity of the text, which contained linguistic structures deep implications, but the use of reference or waving in the sermon is the most beautiful findings Find him.
 

الكلمات الرئيسية [English]

  • Alshqshqih
  • stylistic words
  • linguistic analysis
  • voice level

إن الأسلوبیة تمییز الکلام الفنّی من بقیّة مستویات الخطاب، وکذلک من سائر أصناف الفنون الإنسانیة؛ لأنّها "تُعنى بدراسة الخصائص اللغویة التی تنقلالکلام من مجرّد وسیلة إبلاغ عادّیإلىأداء تأثیر فنی" (السد، 1418هـ، ص15)؛ أی دراسة الخصائص اللغویة للخطاب دراسة موضوعیة، فالأسلوبیة محورٌ جدید فی تمییز أسلوب الأدیب، لأنّها تُظهر أدبیّة الأسلوب من خلال فرضیّة المستویات المتعدّدة، فهی لم تکن لغة علمیّة بحتة، کما أنّها لم تکن لغة فلسفیة أو منطقیة. ونستطیع القول بأنّ منهج الأسلوبیة من بین المناهج اللغویة الأخرى أفضل منهج لتحلیل نصّ الخطبة الشقشقیّة.

إنّ الخطبة الشقشقیّة من أبرز الخطب الوعظیة، والوصفیّة للإمام علی u ولم تقتصر أهمیتها على مستوى المضمون فحسب، بل تتعدّى إلى مستویات أُخرى، فسحر موسیقى الخطبة الشقشقیّة بما تحمل من الطاقات الصوتیة الکبیرة تتواشج مع الألفاظ، والمعانی فی نسیج رائع، بل تکمن الموسیقى فیها فی الألفاظ بما تحتوی من أصوات تختلف فی وضوحها السمعی وقدرتها على إبراز المعنى، وتناسق الألفاظ مع الدلالات الکامنة فیها؛ فهذه الدراسة الأسلوبیة تُظهر دلالات الخطاب من خلال دراسة المستویات اللغویة فی الخطبة الشقشقیّة.

والمستویات اللغویّة التی تدرس فی المنهج الأسلوبی أربعة أو ستّة وهی: الصوتی، الصرفی، النحوی، المعجمی، الترکیبیّ، السیاقی (عوض حیدر،1419، ص30). وقد جاء ترکیز هذه الدراسة فی هذا المنهج على أربعة مستویات:

ألف) المستوى الصوتی: الکشف عن مدى تلائم أصوات الحروف الانفجاریّة المستخدمة فی الخطبة مع الدلالات الموجودة فیها، فقد دُرست فی هذا المستوى دلالة صفات الأصوات (الجهرو الهمس و الشدّة و الرخاوة)، ودلالة تکرار الأصوات؛

ب) المستوى الصرفی: دُرست فی هذا المستوى ظاهرة (زیادة المبنى تدل على زیادة المعنى)، ودلالات الأفعال الماضیة وجموع التکسیر؛

ج) المستوى الترکیبی: دُرست فیه أسلوب القسم والتوکید والإحالة الضمیریّة؛

د) المستوى الدلالی: دُرست فیه الاستعارة والکنایة.

أسئلة البحث

 یحاول البحث الإجابة عن الأسئلة الآتیة:

1ـ ما هو دور مستویات التحلیل اللغوی فی الخطبة؟

2ـ لماذا استخدمت الخطبة صیغة الماضی، وابتعدت عن صیغة المضارع؟

3ـ لماذا امتنعت الخطبة عن ذکر الترادف والجناس على الرغم من استعماله السجع بصورة مکثّفة؟

فرضیات البحث

1ـ من خلال النظر فی الخطبة وجدنا أنّها حوت جمع المستویات؛

2ـ تکاد تکون الخطبة مجرّدة من صیغ المضارعة، لأنّها ترید أن تتحدث عن الوقائع التی وقعت ومضت، وذلک لإظهار آلام الإمام u المکنونة؛

3ـ إنّ الامتناع عن بعض المحسنات البدیعیة بسبب إعطاء الإمام لکل لفظة حقّها، فهی مرتبطة ارتباطا وثیقا بالمعنى، فالمعانی عنده تتسلسل بعضها من بعض فی سیاق وثیق.

خلفیة البحث

تعدّ الخطابة فی الأدب العربی من أهمِّ فنون الأدب، وتتمثل خطب الإمام علی u مرحلة من مراحل تطوّر هذا اللّون الفنّی فی الأدب العربی، لذلک اهتمّ الباحثون والدارسون فی البلدان العربیة والجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیّة بخطب الإمام u، وأمّا الدراسة الأسلوبیّة لخطب الإمام u یبدو أنّها لم تدرس بشکل مکثّف، لذا لم نجد دراسة أسلوبیّة للخطبة الشقشقیّة سوى دراسة واحدة، وهی للباحث حسین محسنی (الخطبة الشقشقیّة تحلیل لغوی أسلوبی)، حیث تطرّق إلى نظریّة الحقول الدلالیّة، والألفاظ الدالة على حقل دلالی واحد، والألفاظ الدالة على الزمن والطبیعة و الحیوانات التی ذکرت فی الخطبة، وکذلک تطرّق إلى دراسة الجمل فی النص. والفرق بین دراسة حسین محسنی، وبین دراستنا واضح، فقد عالج محسنی الوحدات المعجمیّة حسب حقولها الدلالیّة، واهتمّ بمیزات الجمل ومستوى الخطاب فی الخطبة، أی إنّه درس المستوى المعجمی، وأمّا دراستنا للخطبة فقد عالجت المستویات الأربعة (الصوتی، الصرفی، الترکیبی، الدلالی)، وابتعدنا عن دراسة المستوى المعجمی لکونه مدروسا سابقا. وجدیر بالذکر أن هناک رسالة ماجستیر تحت عنوان "بلاغة تقدیم المفعول فی نهج البلاغة" والتی کتبها زهرا رنج دوست و هناک أیضا مقال یعنون بـ"الانزیاح الترکیبی (التقدیم و التأخیر) فی خطب نهج البلاغة" للمولفین بختیار مجاز، سردار أصلانی ونصرالله شاملی والذی طبع فی مجلة اللغة العربیة و آدابها بجامعة طهران فردیس فارابی حیث تطرق المولفون إلى موضوع واحد من مواضیع الأسلوبیة وهو التأخیر والتقدیم وهو الموضوع الذی لم نتطرق إلیه فی بحثنا هذا.

الخطبة الشقشقیّة

قال u:"أَمَا وَاللّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا (فلان) ابن أبی قحافة، وَإِنَّهُ لَیَعْلَمُأَنَّ مَحَلِّی مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، یَنْحَدِرُعَنِّی السَّیْلُ، وَلاَ یَرْقَى إِلَیَّ الطَّیْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَاثَوْبَاً، وَطَوَیْتُ عَنْهَا کَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئی بَیْنَ أَنْأَصُولَ بِیَد جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طِخْیَة عَمْیَاءَ، یَهْرَمُفِیهَا الْکَبِیرُ، وَیَشِیبُ فِیهَا الصَّغِیرُ، وَیَکْدَحُ فِیهَامُؤْمِنٌ حَتَّى یَلْقى رَبَّهُ، فَرَأَیْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَاأَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَفِی الْعَیْنِ قَذَىً، وَفِی الْحَلْقِ شَجاً، أَرَىتُرَاثِی نَهْباً، حَتَّى مَضَى الاْوَّلُ لِسَبِیلِهِ فَأَدْلَى بِهَاإِلَى ابْنِ الْخَطَّاب (فلان) بَعْدَهُ، ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الأَعْشَى

شَتَّانَ مَا یَوْمِی عَلَى کُورِهَا

 

وَیَوْمُ حَیَّانَ أَخِی جَابِرِ

فیَا عَجَباً بَیْنَا هُوَ یَسْتَقِیلُهَا فِی حَیَاتِهِ، إِذْ عَقَدَهَا لآخر بَعْدَ وَفَاتِهِ لشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَیْهَا، فَصَیَّرَهَافِی حَوْزَة خَشْنَاءَ یَغْلُظُ کَلْمُهَا، وَیَخْشُنُ مَسُّهَا،وَیَکْثُرُ الْعِثَارُ فِیهَا، وَالاعْتِذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَاکَراکِبِ الصَّعْبَةِ، إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَاتَقَحَّمَ، فَمُنِیَ النَّاسُ  لَعَمْرُ اللّهِ  بِخَبْط وَشِمَاس،وَتَلَوُّن وَاعْتِرَاض، فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَشِدَّةِالْمِحْنَةِ، حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِیلِهِ جَعَلَهَا فِى جَمَاعَةزَعَمَ أَنِّی أَحَدُهُمْ فَیَاللّهِ وَلِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَالرَّیْبُ فِیَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَىهذِهِ النَّظَائِرِ، لکِنِّی أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْطَارُوا، فَصَغَى رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَمَالَ الآخَرُ لِصِهْرِهِ،مَعَ هِن وَهَن إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَیْهِبَیْنَ نَثِیلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ.وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِیهِ یَخْضِمُونَ مَالَ اللّهِ خَضْمَةَ الإِبِلِنِبْتَةَ الرَّبِیعِ، إِلَى أَنِ انْتَکَثَ فَتْلُهُ، وَأَجْهَزَ عَلَیْهِعَمَلُهُ، وَکَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ، فَمَا رَاعَنِی إِلاَّ وَالنَّاسُکَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَیَّ یَنْثَالُونَ عَلَیَّ مِنْ کُلِّ جَانِب،حَتَّى لَقَدْ وُطِىءَ الْحَسَنَانِ، وَشُقَّ عِطْفَایَ، مُجْتَمِعِینَحَوْلِی کَرَبِیضَةِ الْغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأَمْرِ، نَکَثَتْطَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى، وَقَسَطَ آخَرُونَ، کَأَنَّهُمْ لَمْیَسْمَعُوا کَلاَمَ اللّهِ حَیْثُ یَقُولُ: ]تِلْکَ الدّارُ اْلآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذینَ لا یُریدُونَ عُلُوًّا فِی اْلأَرْضِ وَلا فَسادًا وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقینَ[، بَلَى وَاللّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَاوَوَعَوْهَا، وَلکِنَّهُمْ حَلِیَتِ الدُّنْیَا فِی أَعْیُنِهِمْوَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا. أَمَا وَالَّذِی فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَالنَّسَمَةَ لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِیَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِالنَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ لاَ یُقَارُّواعَلَى کِظَّةِ ظَالِم وَلاَ سَغَبِ مَظْلُوم، لأَلْقَیْتُ حَبْلَهَا عَلَىغَارِبِهَا، وَلَسَقَیْتُ آخِرَهَا بِکَأْسِ أَوَّلِهَا، وَلأَلْفَیْتُمْدُنْیَاکُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِی مِنْ عَطْفَةِ عَنْز" (عبده،1427هـ، ص30).

فی بادئ ذی بدء نتحدث بإیجاز عن الخطبة، وإثبات وجودها، وانتسابها إلى أمیر البلاغة أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب u، فلا یمکن مطلقا بعقلیّة المتبحّر أن تکون هذه الخطبة التی أبعادها وانعکاساتها تنبئ فعلا عن موقف الإمام علی u السلمی السیاسی مما حصل وقتها أن تنسب الخطبة لغیره مع أن الحقائق التی ذکرها الإمام علی u بصعوبة الصیاغة بالمفهوم الذی أورده على کل متمکن من الکلمات وبلاغتها بما یقرّب من المفهوم الذی أراد إیصاله کفکرة یخلّدها التاریخ له کموقف، فالاستنتاجات المبنیة على الحب والکره مثلا تقف هنا عاجزة أمام الحجج التی أوردها الإمام بخطبته التی شقشق فیها حقه فی الخلافة دون أن یلّوح بالجیوش والسیوف وببطولته المعروفة عند الجمیع، فبلاغة الخطبة تؤکّد على انتسابها للإمام علی u قلبا وقالبا مؤطرا بموهبته الفریدة فی التعبیر عن مکنوناته.

إن الذی یشکک فی الخطبة، ویعزوها إلى السید الشریف الرضی، فهو واهم، فقد ذکر الشیخ الأمینی مصادرها من أهل السنّة، فقد رووها قبل ولادة السیّد الشریف، حیث یقول الشیخ الأمینی فی کتابه الغدیر: "هذه الخطبةتسمى بالشقشقیة ، وقد کثر الکلام حولها ، فأثبتها مهرة الفن من الفریقین،ورأوها من خطب مولانا أمیر المؤمنین الثابتة التی لا مغمز فیها ، فلا یُسمعإذن قول الجاهل بأنّها من کلام الشریف الرضی، وقد رواها غیر واحد فیالقرون الأولى قبل أن تنعقد للرضی نطفته، کما جاءت بإسناد معاصریهوالمتأخرین عنه من غیر طریقه، وإلیک عددا من تلک المصادر عن طرق أهلالسنة:      
أ ـ الحافظ یحیی بن عبد الحمید الحمانی، المتوفّى 228، کما فی طریق الجلودی فی العلل والمعانی.        
ب ـ أبو علی الجبائی شیخ المعتزلة، المتوفّى 303، کما فی الفرقة الناجیةللشیخ إبراهیم القطیفی، والبحار للعلامة المجلسی 8: 161 .
جـ وجدت بخط قدیم علیه کتابة الوزیر أبی الحسن علی بن الفرات، المتوفّى 312، کما فی شرح ابن میثم .
د ـ أبو القاسم البلخی أحد مشایخ المعتزلة، المتوفّى 317، کما فی شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1: 69" (الأمینی،1407ق،ج7، ص82).

وبعد دراسة مستفیضة للخطبة، والوغول فی طیّاتها نجد الخطبة تعلوها اللطافة، والغرابة فیها ابتداءً من اسمها، فقد سمّیت بالشقشقیّة، والشقشقة بالکسر، شیء کالریة یخرجه البعیر من فیهِ إذا هاج (ابن منظور،1402ق، ج ١، ص١٨٥ ).وربما سمیت الخطبة الشقشقیّة بهذه التسمیة، لأنها متضمّنة لذکر الشقشقة حیث قال الإمام u لابن عباس:" تلک شقشقة هدرت ثم قرت".  ولها تسمیة أخرى تسمى بالمقمّصة، لاشتمالها على لفظ التقمّص الوارد فی أوّلها " لقد تقمّصها ابن أبی قحافة ".

وحدة النص

إن وحدة النص من سمات الخطبة الناجحة، فالنص فی الخطبة الشقشقیّة بوصفه کتلة لغویّة محکمة البناء والنسج یعتریه تفاعل الوحدات النصیّة فیه من حیث صدورها وکینونتها، نستطیع تحدید الجوانب المحوریة التی تتفاعل فی الوحدات النصیة، وکیفیة ترابط هذه الوحدات وتعالقها المنطقی لاسیما و أنّ صاحب النص یکون قد وضع فی ذهنه إطاراً محدداً یدیر کلامه فیه، وتراکیب الخطبة محکمة لا یشوبها لبس، ولا غموض، فهی جزلة فخمة فصیحة ممتدة الدلالة.

إن فی وحدة النصّ یکون الانسجام الدلالی الداخلی السیاقی، وهو انسجام العلاقات الترابطیة ذات البعد الأفقی بین وحدات النص، ونقصد به تلک العلاقات بین الجمل والعبارات الجاریة على لسان أمیر المؤمنین علی u، فهذا المحور یدرس التعاقب وأثره فی تکوین الوحدة والانسجام النصی، بل یعدّ هذا القسم هو الأشهر فی الدراسات الأدبیّة، والقرآنیة القدیمة، وکان یسمى بعلم المناسبة (الزرکشی،1402ق، ج2، ص56). وقد عدّه الرازی وجها من وجوه الإعجاز البلاغی فی الأدب والقرآن الکریم (الرازی، 1406ق، ج3، ص35).

فلو أخذنا مثالاً کلمة (فُلان)، فهی کنایة عن العلم المذکر العاقل، وربما لا یکون لها معنى یؤخذ بعین الاعتبار، ولکنها حینما امتزجت مع غیرها فی ترکیب جارٍ فی سیاق معین فی وحدة النص، دلّت على الاسم المکنى عنه، فلفظة فلان: کنایة عن الخلیفة الثانی، والإمام u لم یذکر الاسم بلفظه، و ربما استعمل أسلوب القرآن الکریم حینما یقول: "یا لیتنی لم اتخذ فلانا خلیلا"، إذ یقول الإمام u: "حتّى مضى الأول لسبیلهفأدلى بها إلى فلان بعده".    
 ولنتأمّل قلیلا فی کلمة (الأول)، فهو لم یذکر اسمه، لأنّه ذکره فی بدایة الخطبة، وتکرار الاسم یعتبر معیبا عند العرب. ویبدو أن الإمام علی u کان بعفویته الثقافیة یباشر عمله الإبداعی الفوری، فیأتی النص المرتجل متماسکا فی وحدة النصِّ مثل النصِّ المکتوب، فهو فی غایة الإتقان والإبداع، فجریان خطبه على هذا النحو الباهر فی طوله وقصره هو دلیل على الفعالیة الخارقـة لعقـل مبدع موهوب هو السید المؤکد فی عالم العقول ولا یمکن أن تتوفر تلک الخصوصیة لقوة الـنص فـی المخاطبة الارتجالیة وفی الکتابة لشخص آخر غیر الإمام علی u، و من أجل ذلک کان نهج البلاغة وما یزال یفتح أبوابا کثیرة للدراسة فهو أرض خصبة للدارسـین، وذلک لسعة مادته وتنوع موضوعاته، وقد کثرت الدراسات فی الآونة الأخیرة، وألّفت الشروح المتنوّعة.

مستویات التحلیل اللغوی

وهو تفکیک الظاهرة اللغویة إلى عناصرها الأولیة التی تتألف منها، وینقسم الى مستویات؛ الصوتی، والصرفی، والنحوی، والدلالی.

المستوى الصوتی: هو علم الفونولوجیا الذی یعنى بالأصوات وإنتاجها فی الجهاز النطقی وخصائصها الفیزیائیة (فضل، 1426ق،ص213).

وعلم الأصوات فی اللغة یهتم بالجانب الصوتی فیها، ویأخذ هذا العلم على عاتقه أمورًا کثیرة منها: إحصاء الأصوات اللغویة وحصرها فی أعداد وتصنیفها إلى نوعین :

أولاً: أصوات أو حروف أصلیة أو وحدات صوتیة یطلق علیها فونیمات، وتشمل على الأصوات الصامتة والأصوات الصائتة ـ الحرکات، (الفونیم: یطلق على أصغر وحدة صوتیة ذات أثر فی الدلالة، أی إذا حلت محل غیرها مع اتحاد السیاق الصوتی تغیرت الدلالة واختلف المعنى).

ثانیا: أصوات أو حروف فرعیّة یطلق علیها فونات، (الفون: فهو بمثابة تنوع نطقی للفونیم أو الصوت الأصلی لا یؤثر فی الدلالة). وقد عرّفه أهل الاختصاص بأنّ:"المستوى الصوتی هوالأثر السمعی للکلام بتصنیف أصوات اللغة، وتنویع الصوت وفق أسالیب القول من أمر ونهی وتعجّب واستفهام، وتعدید صفات الأصوات کالهمس والجهر والرخاوة والصفیر والتکرار" (فضل،1426ق، ص214)، ونستطیع من خلاله الوصول إلى الدلالة الصوتیّة عن طریق دراسة خصائص الحروف ومعانیها.

ألف) المستوى الصوتی فی الخطبة

فی دراسة المستوى الصوتی لکل نص أدبی یلزم دراسة الموسیقى الخارجیة ( الوزن والبحر والقافیة) و الموسیقى الداخلیة (التکرار، صفات الحروف، الصلات بین الأصوات وبین الکلمات ومعانیها وغیرها) بید أننا نکتفی فی بحثنا هذا بذکر البعض من ظواهر المستوى الصوتی احترازا عن الإطالة فی الکلام نظرا لحجم المقالة الذی لا یتسع التطرق إلى جمیع الظواهر الأسلوبیة لخطبة الشقشقیة.

بدایة الخطبة بحرف "أمّآ"

ابتدأ الإمام علی u کلامه بحرف علیه طابع الشدّة، أو یُنسب إلى حروف الشدّة، وهی الهمزة، فقد بدأ کلامه بقوله: "أما والله"، والهمزة من حروف الشدّة (الشدة: قوة الحرف لانحباس الصوت من الجریان عند النطق به لقوّة الاعتماد علیه فی مخرجه، وحروفها ثمانیة مجموعة فی أجد قط بکت، أو أجدت طبقک) (عباس، 1426هـ، ص 71). ولو تتبعنا الحروف التی استخدمها الإمام فی الخطبة لوجدنا أن أکثر الحروف استخداما هی (حروف الشدّة)، وهذا یعطینا طابعا عن الخطبة بأنّها ملیئة بالحزن، والتألّم، والعتاب.

والغریب أنّ الإمام علی u لم یبدأ کلامه بـ(ألا) الاستفتاحیّة على الرغم من أنّهما متشابهان فی الخصائص، والفرق بینهما قلیل نادر، فـ (أما) تأتی للحال، بینما (ألا) تأتی للاستقبال.

 وکذلک (أما) تکثر قبل القسم، و(ألا) تکثر قبل النداء، ولکونها بهذا المنصب من التحقیق لا تکاد تقع الجملة بعدها إلا مصدّرة بنحو ما یتلقى به القسم (ابن هشام،1416ق، ج1،ص123).   
ویبدو أنّ الإمام u أراد بکلامه إظهار الحال، ولیس المستقبل، لذلک بدأ بـ(أما)، لیکون التناغم متناسبا مع حرف الهمزة الشدید، وکذلک یستمرّ التناغم مع الحرف الثانی، وهو (المیم) المجهور، وهو حرف مجهور لکنّه متوسّط الشدّة والرخاوة، کذلک هو حرف یدلّ على الانجماع والانضمام، فهو یمثّل الأحداث التی یتمّ فیها التوسّع والامتداد، ویتلائم بالإیحاء بالمشاعر الإنسانیّة من غضب، وتألّم، وبغض مع التوسّع والبُعد والامتداد (عباس،1426ق، ص73). ففی کلام الإمام u یوجد التألّم والحسرة من القوم، وهو یرید أن یستهلّ الخطبة بتحسّره، والتعبیر عمّا یتلجلج فی صدره من الأسى؛ وذلک استثارة الصحابة مطابقا لما فی خاصیّة (الهمزة والمیم)، وتقریب الواقع المریر لما أصاب الأمّة من هن وهنات.

تکرار حرف الألف

إنالألف من حروف المدّ، وهو حرف جهر وشدّة، فتکراره یسهم فی شدّة الکلام، والغلظة، فالتکرار: "یسهم بما یوفّره من دفق غنائی فی تقویة النبرة الخطابیّة، وتمکین الحرکات الإیقاعیّة من الوصول إلى مراحل الانفراج بعد لحظات التوتر القصوى" (شرتح،1431هـ ،ص10). إنّ هذا التکرار له إیقاع فی النفوس منسجم مع الحالة النفسیّة للإمام u، فهو یرید تنبیه الأمّة، وإیقاضها من غفلتها، فقد بلغ الإمام u ذروة الإیقاع الصوتی فی کلماته (لأَلْقَیْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَیْتُ آخِرَهَا بِکَأْسِ أَوَّلِهَا)، فقد أجاد الإمام u فی توظیف الألف الموحی للحسرة، وعدم الاکتراث بأمر الخلافة، فالألف جاءت بنغمة حزینة تبعث على الأسى، ویبدو أنّ الإمام u قالها بصوت شجی، لذا جاء کلامه متناغما مع الجمیع، ومتناسقا بحروفه، ومبدعا بإیقاعه، وهذه سمة الخطیب الناجح.

السجع

 لاتکاد تخلو خطبة من خطب الإمام علی u من السجع، فالسجع عند الإمام u أمر مهم حتى نُعت به، فقد قال ابن زیاد للسیدة زینب 5: "لعمری لقد کان أبوکِ شاعرا سجّاعا" (الاسفراینی،1405ق،ص56). والسجع یعتبر من العناصر المهمّة والبنّاءة فی بلاغة خطب الإمام u، فهو یأتی بالسجع ملائما لسیاق الکلام، والموقف الذی یخطب فیه، والسجع أسلوبٌ رائع استعمله القرآن الکریم فی أغلب آیاته.

ومن الغریب أنّ بعض أهل الاختصاص یرفض خطب الإمام u لوجود السجع فیه، بل اعتبره منافیا للبلاغة، لذلک أورد ابن أبی الحدید قولاً لأصحاب علم البیان أنّ قوماً عابوا السجع وأدخلوا خطب أمیرالمؤمنین u فی جملة ما عابوه لأنّه یقصد فیها السجع وقالوا إنّ الخطب الخالیة من السجع والقرائن والفواصل هی خطب العرب، وهی المستحسنة الخالیة من التکلف.

وقد ردّ قولهم ابن أبی الحدید بقوله: "إنّ السجعَ یدلّ على التکلّف فأنّ المذموم هو التکلّف الذی تظهر سماجته وثقله للسامعین فأمّا التکلّف المستحسن فأیّ عیب فیه؟ ألا ترى أنّ الشعر نفسه لا بدّ فیه من تکلّف لإقامة الوزن ولیس لطاعن أن یطعن فیه بذلک" (ابن ابی الحدید، 1402ق، ج1، ص26).

یأتی الإمام u بکلام مسجوع فی خطبته الشقشقیّة حیث یقول: "فَسَدَلْتُ دُونَهَاثَوْبَاً، وَطَوَیْتُ عَنْهَا کَشْحاً"، "وَطَفِقْتُ أَرْتَئی بَیْنَ أَنْأَصُولَ بِیَد جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طِخْیَة عَمْیَاءَ"،" یَهْرَمُفِیهَا الْکَبِیرُ، وَیَشِیبُ فِیهَا الصَّغِیرُ"، "فَصَیَّرَهَافِی حَوْزَة خَشْنَاءَ یَغْلُظُ کَلْمُهَا، وَیَخْشُنُ مَسُّهَا،وَیَکْثُرُ الْعِثَارُ فِیهَا، وَالاعْتِذَارُ مِنْهَا"، "فَصَاحِبُهَاکَراکِبِ الصَّعْبَةِ، إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَاتَقَحَّمَ"،"لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِیَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِالنَّاصِر"، "وَمَا أَخَذَ اللّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ لاَ یُقَارُّواعَلَى کِظَّةِ ظَالِم وَلاَ سَغَبِ مَظْلُوم"، "لأَلْقَیْتُ حَبْلَهَا عَلَىغَارِبِهَا، وَلَسَقَیْتُ آخِرَهَا بِکَأْسِ أَوَّلِهَا" (عبده،1427ق،ص 30).

لقد اتّسمت هذه المقطوعات اللطیفة بالسجع المحکم الأداء، فکأنّ کل جملة فی صیغتها المجزوءة المختصرة شطر بیت متشابه الوزن والروی، فکلماته ملیئة بأنواع التنمیق اللفظی والتلوین الصوتی، والدلالی بین عبارات الفقرات، مما یجعل الخطبة الشقشقیّة محکمةً إحکاماً دقیقاً.

تستند خطب الإمام u إلى السجع تارة، وإلى الازدواج تارة ثانیة، وإلى المزج بینهما تارة ثالثة، وقد نجد شیئاً مغایراً لا ینتمی إلى السجع أو الازدواج وذلک من خلال توظیف دقیق للإیحاء الصوتی للمفردات أو تنسیق الجمل فی لون من الانسجام الموسیقی بین مقاطع صوتیة قد تتعادل وقد تتجانس، وقد نراه یرسل القول إرسالاً دون استناد إلى محسن بدیعی لفظیاً کان أو معنویاً.

وإذا کان الإمام علی u لا یعتمد الأسجاع إلاّ فی مواضعها، فإن الخطبة لها نغمة خاصة، تسلک عبرها إلى نفس السامع، تتضافر فیها صیغ اللفظ والعبارة وتآلف الحروف فأداؤه هو الأداء المحک فالمثقف الذی تفد فیه اللفظة بنوع من الخلق والاشتقاق الخاص بها وبلاغة الأداء ونغمیته لا تتحولان فی خطبة إلى غایة بذاتها فی نوع من الصنعة البدیعة أو ما إلى ذلک، بل إن النغم یتآلف مع اللفظة ومعناها جمیعا، بنوع من الوحدة الحیة المتکاملة التی لا یحدق البحث بسرها (فی رحاب نهج البلاغة، 1425ق، www.arabic.balaghah.net).

ویبدو أنّ الخطبة خالیة من الترادف؛ لإنّ الإمام یُعطی لکل لفظة حقّها مرتبطة ارتباطا وثیقا بالمعنى، فالمعانی عنده تتسلسل بعضها من بعض فی سیاق وثیق،والألفاظ عنده تنبث عبر نغم أو وزن ذاتی مضمر مما یدع فیها إیقاعا شبیهاً بإیقاع الشعر، بل إنّک تلتمس فیه لطافة البلاغة والتنغیم، فهو یضع حروف الشدّة الانفجاریّة فی بدایة خطبته، لیُشعرک بعدم الرضى بخلافة القوم.

وإذا أقمنا موازنة لهذه الخطبة الرائعة فی میزان النثر الصافی، والمتّزن یبدو أنّها تفوق النثر، فلم تقتصر غایة الخطیب المبدع فیها على الإیضاح بل تعدّته إلى الإیجاد والتأثیر وبدلاً من أن یقول یقضمون مال الله، قال: (یَخْضِمُونَ مَالَ اللّهِ)، والعبارة الثانیة أوقع فی النفس جرساً، فشتان ما بین القضم والخضم.

إنّ السجع المتکرّر فی خطب الإمام u له جرس خاص، ونغمة متمیّزة یمتاز بها أمیر البیان u لما یجمعها البناء الواحد المترابط، لذلک یقول أحمد المبارک: "والکلمات التی تکون على بنیة واحدة تجمعها رابطة الجرس والنغمة وتمیزها فی الکلام المسموع من غیرها من الألفاظ کما تجمعها أو تکاد رابطة التناظر التزیینی فی الکلام المکتوب وإن کانت الأولى أوضح وأقوى لذلک کانت أبنیة الألفاظ وأوزان الکلم العربی وحدات موسیقیة ترجح إلیها جمیع ألفاظ اللغة العربیة وکان الکلام فی حال ترکیبه سواء أکان شعراً أم نثراً مجموعة من التراکیب والوحدات الموسیقیة، إذا أحکم ترکیبها وتولّتها ید صناع وحس مرهف وفکر نافذ کانت إلى جانب أدائها للمعنى قطعة فنیة موسیقیة تسابق المعنى إلى القلب عن طریق الحس و السمع حتى إن الکلام العربی لیبدو کأنه زخارف الفن العربی فی صوره المتناظرة و المتکررة والمتشابهة والمختلفة و هذا هو سر موسیقیة اللغة العربیة وجمال إیقاعاتها وحلاوة نغماتها ولاسیما إذا وقع صائغ الکلام على أنواع موفقة من التألیف والمزواجة بین الألفاظ" (المبارک، 1328ق،ص 125).

ویبدو أنّ الامام u قد ترک الجناس فی هذه الخطبة على الرغم من أنّه لم یترک خطبة إلاّ وعضّدها بجناس تام، بل إنّ أغلب خطبه تمتاز بالجناس الناقص، ونحن نعلم أنّ الجناس من أکثر ألوان البدیع موسیقیاً، وهو ینبع من تردید الأصوات المتماثلة التی تقوّی رنین اللفظ وتوجد جرسأ موسیقیاً، فهو ضرب من ضروب التکرار یقید تقویة نغمة الألفاظ، فضلاً عن أنّ الدعامة القویّة لتأکید المعنى وتثبیته.

و الجناس یعتبر من أقوى العوامل فی إحداث الانسجام لما فیه من عاملی التشابه فی الوزن والصوت، فسرُّ قوّة الجناس یکمن فی أنّه یقرّب بین مدلول اللفظ وصوته من جهة، و بین الوزن الموضوع فیه اللفظ من جهة أخرى.

ومن الأسالیب البلاغیّة التی استعملها الإمام u فی الخطبة الشقشقیّة هو أسلوب الطباق، وهو أسلوب یحقّق بنیة إیقاعیّة یطلق علیها الإیقاع التقابلی، نحو:"یَهْرَمُفِیهَا الْکَبِیرُ، وَیَشِیبُ فِیهَا الصَّغِیرُ"، فضلاً عمّا یترکه الطباق من أثر فی تأکید المعنى وإیضاحه.

 

ب) المستوى الصرفی

 هو علم الموروفولوجیا یتناول البنیة التی تمثلها الصیغ والمقاطع والعناصر الصوتیّ التی تؤدّی معانی صرفیّة، أو نحویّة، ویُعنى بدراسة الوحدات الصرفیّة (المورفیمات) دون أن یتطرق إلى مسائل الترکیب النحوی، ویدرس المستوى الصرفی الصیغ الصرفیّة، واحتمال الکلمة الواحدة وجوها للمعانی مثل الإتیان بالمصدر المیمی واحتماله معانی اسم الزمان والمکان، وتغییر المعنى للکلمة باختلاف کمیّة حروفها اعتمادا على قاعدة "زیادة فی المبنى تدل على زیادة فی المعنى" (عتیق،1395ق،ص10).

المستوى الصرفی فی الخطبة

من الأسس العامة فی اللغة ظاهرة "زیادة المبنى تدل على زیادة المعنى"، فقد تذوّقها اللغویون الأوائل فی جمعهم لکلامالعرب، وفسّرها بعض المنظّرین من بعدهم بتفسیرات لا تزال محتاجة إلىضبط مواردها، وحصر صورها؛ لأن کثیراً مما لا یدخل تحت هذا الأساس، قد یعد ـوهماً ـ منها، ولذا یحتاج الأمر إلى نظریة ترصد الصور المتعددة والمختلفة،ثم تبنی القواعد المتحکمة فی إدخال وإخراج غیره.

فظاهرة "زیادة المبنى تدلّ على زیادة المعنى" لها دلالات ربما نلحظها فی کلمات أمیر المؤمنین u، فنجده یأتی بلفظة (تقمّصها)، فقد جاء بزیادة حرف التاء، وکذلک لفظة (یستقیلها)، وهی لفظة قد أضیف لها حرفان من حروف الزیادة العشرة المعروفة (سألتمونیها)، وهما (التاء والسین)؛ وذلک للدلالة على مبالغة الکلام الذی قاله الخلیفة الأول حینما قال: (أقیلونی)، فتکرار الزیادة یقتضی زیادة فی المعنى: "إنّ المبالغة هی زیادة فی المعنى تقتضی زیادة فی بناء اللفظ" (ابن جنّی،1409،ج3،ص266).

 إنّ ورود الجموع فی الخطبة یعطی دلالات نلحظها، بل هی واضحة، فالإمام u یستعمل جمع التکسیر، فهو  فی غایة الأهمیّة، والعجیب أنّ بعض أهل العربیة قلّل من قیمة جمع التکسیر، فمنهم من کان "ینادی بحذف باب جمع التکسیر من الصرف؛ إذ لایرى فیه فائدة لدرس الجملة غیر أنّ الدرس الصرفی لجمع التکسیر مهم جداً" (خلیفة،1417ق،ج5،ص46).

استخدم الإمام u جموع الکثرة فی (نظائر، العلماء)، فربما وظّف الإمام u جموع الکثرة لانسجامها بدلالتها على کثرة المصائب، والویلات التی لاقاها من هؤلاء النفر المتطاولین على حقِّ الله تعالى، ورسوله، وولیّه، وکذلک استخدم الإمام u جمع القلّة لأظهار قلّة الناصر والمعین، وقلّة المتعظین بکلامه، ولو أنعمنا النظر فی الجمل الواردة فی الخطبة سوف نشاهد سیطرة الجمل الماضیة على الخطبة سیطرة تامّة، إذ یبلغ عدد الجمل التی وردت بصیغة الماضی خمسین جملة، فی حالة تَعدم الخطبةُ الجملَ المضارعة تقریباً، إلاّ بعض الجملات التی وقعت حالاً فی "وَإِنَّهُ لَیَعْلَمُ" و"قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِیهِ یَخْضَمُونَ" أو صفة کما فی "طَخْیَةٍ عَمْیَاءَ یَهْرَمُ فِیهَا اَلْکَبِیرُ وَیَشِیبُ فِیهَا اَلصَّغِیرُ وَیَکْدَحُ فِیهَا مُؤْمِنٌ" و"حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ یَغْلُظُ کَلْمُهَا وَیَخْشُنُ مَسُّهَا".

 فالخطبة تکاد تکون مجرّدة من الدلالة المضارعة، فهی ترید أن تتحدث عن الوقائع التی وقعت ومضت؛ وذلک لإظهار آلامه المکنونة ولا یقصد منها موعظة أو اجتهاد دون الوصول إلى أی تغییر، وکیفیة معاملة القوم بعد الإمام مع الحسنین 6 تدل على عدم اتعاظهم من الحوادث التی جرت فی عهد أمیر المؤمنین u، والدلیل الآخر على هذا القول عدم أجابته u دعوة ابن عباس إلى إطراد الخطبة.

ج) المستوى الترکیبی

وهو المستوى الذی یُقصد به مراعاة الجانب النحوی أو الوظیفة النحویّة لکل کلمة داخل الجملة. و"المستوى الترکیبی یدرس تألیف وتراکیب الجمل وطرق تکوینها وخصائصها اللغویّة" (فضل،1426ق،ص214) .

    وقد عرّفه الدکتور فرید عوض فی کتابه علم الدلالة دراسة نظریّة تعریفا واضحا مبسّطا حیث یقول: "هو استنباط المعانی العامّة للجمل والأسالیب الدالّة على الخبر أو الإنشاء والإثبات أو النفی والتأکید والطلب کالاستفهام والأمر والنهی والعرض والتحضیض والتمنّی والترجی والنداء باستخدام الأدوات الدالّة على هذه الأسالیب" (حیدر،1426ق،ص43). وهنا یمکن أن یأتی دور الأسلوبیة النحویة فی دراسة العلاقات والترابط والانسجام الداخلی فی النص وتماسکه عن طریق الروابط الترکیبیة المختلفة.

 إنّ بنیة اللغة لا تکتفی بمجرد صیاغة المفردات وفق القواعد الصرفیة، بل تحتاج إلى وظائف معینة تسمى: "الوظیفة النحویة" وهی التی تحتل الکلمات فیها مواقع معینة تشیر إلیها علامات معینة نسمیها علامات الإعراب فی العربیة والتی تدل على نوع العلاقة الوظیفیة والدلالیة التی تربط بین الکلمات أو المفردات داخل الترکیب، فمثلا: ضرب موسى عیسى، وضرب عیسى موسى، بینهما اختلاف مردّه إلى اختلاف الرتبة، فالموقع أو الرتبة یصبح ذا محتوى دلالی؛ لأنّه لا تظهر علیه علامات إعراب فهی أسماء مقصورة.

والموقع هو ذاته وظیفة؛ فاعل، ومفعول به، وتمییز، وصفة، فهو إشارة (الموقع) إلى وظائف، والوظائف هی علاقات دلالیة تربط الکلامات بعضها ببعض فی الکلام أو وسط الکلام، وتزید هذه العلاقات الدلالیة تحدیدًا بالعلامات الإعرابیة التی هی مؤشرات إضافیّة، وبالتالی تزید فی بیان نوع العلاقة النحویّة والوظیفیّة والدلالیّة.

المستوى الترکیبی فی الخطبة

لو تأمّلنا الخطبة مجدّدا لوجدنا أنّ الإمام u ابتدأ کلامه بأداة التنبیه (أما والله) أو الاستفتاحیّة، وکذلک ورود القسم معزّزا بتوکیدات اللام و إنّ (أما والله لقد ... لیعلم انّی)، وهذا الأسلوب یُشعر بوجود أجواء ملیئة بالتردید والإنکار بین المتقمصین الخلافةَ من جهة، وعموم الناس من جهة أخرى والصلة الوثیقة بین جهل الأفراد بالنسبة إلى شیءٍ ما وإنکار ذاک الشیء أمر بدیهی وطبیعی؛ لأنّنا نعلم أنّ أسلوب التوکید، والإکثار من التوکیدات تشیر إلى الإنکار من قِبل الطرف المخاطب.

وهناک أسلوب آخر استعمله الإمام u، وهو أسلوب الإحالة الضمیریّة، فقد  کرّر فی خطبته الشقشقیّة الإحالة الضمیریّة، وهذا الاستعمال أو الإحالة نوع من الاستعمالات اللغویّة، وهو عدم ذکر الشیء بلفظه، وإنّما یذکر على هیئة ضمیر بعائد أو غیر عائد، فالإحالة الضمیریّة فی هذه الخطبة قد استحوذت على تراکیبها من أول جملة فیها، وتوزّعت على أنواع الضمائر المعهودة فی العربیة کلها تقریباً، إلاّ أنّ بعضها متکاثر فی النص بصورة أکثر بروزاً وتکراراً من غیرها، ومنها: الضمیر الوجودی، ونعنی به ضمیر المتکلّم العائد إلى الإمام u، وضمیر المفردة الغائبة، وضمیر المفرد الغائب، فهو یقول:

    "مضى لسبیله / یستقیلها / عقدها / بعد وفاته / فی حیاته / محلّی / ینحدر (عنّی) السیل / لا یرقى (إلیَّ) الطیر / طویتُ عنه کشحاً / سدلتُ / طفقتُ / فرأیتُ/ وصبرتُ / تُراثی".

تعمل هذه الضمائر الإحالیّة على تماسک النص وتحکّم الروابط بین شخوصه وأحداثه وإن کانت متضادة ومتناقضة، وأن تضفی على النص سمة الإیجاز الذی امتدت دلالاته واتسعت، وعدم ذکر الأشیاء والأسماء بألفاظها الصریحة یعنی التحقیر لها أحیانا؛ لکونها لا تستحق أن تذکر، ولو عدنا إلى بعض الکلمات، وهی: "تقمّصها / الخلافة / سدلتُ عنها /  طویتُ عنها / أدلى بها / یستقبلها / عقدها /  صیّرها / ضرعیها".

وهذه الإحالات الضمیریة تلمح إلى غائب قریب، أو بعید؛ لأنّه لا یستحق الذکر بلفظه، أو الإحالة إلیه، لکونه مشهوداً معهوداً فی الأذهان، مکتسباً وجوده عند المتلقین، وقد عملت هذه الضمائر على تنوّع الحوار الداخلی للنّص، وإبراز أبعاد المونولوج، وتحدید أوجه الصراع، وتضارب القوى، وتباین الرؤى والمفاهیم، وأشیاء الحال، وشخوصه، وشخصیاته، وامتداد انسیاق النص وتسلسله.

إن الخلافة وقد أعرض الإمام u عن ذکرها بلفظها، بل کنى عنها بضمیر غائب تقلیلاً من شأنها عنده، فهو صاحب آخرة لا دنیا قد صارت مستدخلة فی أذهان المتلقین، فاستعمل إحالة قبلیة أخرى مستبدلاً الضمیر باسم الإشارة، والإشارة أبعد فی الدلالة من الضمیر، ولکی یحکم القول فی أذهان المخاطبین جاء باسم الإشارة مسبوقاً بهاء التنبیه للدلالة على القریب، ولم یلحقها بحرف الخطاب (الکاف) إمعاناً فی استقباح أمرها، یقول: "فرأیتُ أنّ الصبرعلى هاتا احجى فصبرتُ".

 إننا بحاجة إلى دراسة الخطبة دراسة شاملة، وأهمّها الدراسة الاجتماعیّة، ثمّ الانتقال إلى الأسالیب الإبداعیّة؛ لأنّ دراسة نص إبداعی کالخطبة الشقشقیّة فی معزل عن سیاقاته التداولیة النفسیة والاجتماعیة ظلم بحق النص نفسه، ومبدعه، فالنص لیس بنیة لغویة مجردة، بل هو بنیة لغویة مقامیة ، تواصلیة، فتداعی الکلمة فی النص الإبداعی لا یمکن أن یتمّ بمعزل عن السیاق الذی تتخذه الکلمة من هذا السیاق.

إنّ شعریة التوکید، وشعریة الحذف فی الأسلوب الترکیبی، وما یکتنزان من قوة کامنة فی التلمیح والإشارة ما یضیفان من شحنة بلاغیة إلى اللغة، وانزیاحا عن مألوفیّة واعتیادیة السیاق، فالتوکید زیادة لغویة إذا أحسن استخدامها أعطت قوة شعریة للنص، والحذف نقص لغوی إذا أحسن استخدامه أعطى شحنة شعریة للنص، وقد أبدع الإمام u فی إعطائه مثالا لشعریة التوکید من الخطبة الشقشقیة حیث یقول:"وانّه لیعلم أنّ محلّیمنها محلّ القطب من الرحى" لوجود لام التوکید فی مفردة ـ لیعلم ـ ومفردة محل المتکررة.

الاستعمال المتکرّر لصیغة الغائب

إنّ استعمال الإمام u أسلوب الحدیث عن الغائب، وکذلک عدم استعمال أسلوب النداء فی الخطبة له تأثیر عمیق فی النفوس، فقد یکون السبب أنّ الحاضرین فى المجلس لا قیمة لهم، أو لأنّهم لیسوا أهلاً أن یخاطبهم الإمام u و لا یذکرهم إلاّ فى الحدیث عن الدنیا المنتسبة إلیهم "دنیاکم هذه"، لذلک لم یُسمهم بأسمائهم، فقد سمّاهم بأسماء مبهمة کـ"فلان" و"ثالث القوم".

وربما قد یکون الإمام u قد تجاهل الناس کأنهم غیرُ موجودین جسماً فی مجلسه کما أنهم کانوا غائبین عن عملیة الدفاع عن حقّه المغصوب، وربما یکون "التجافی" عن خطایاهم وعدم مؤاخذة الحاضرین بها، وفی هذه تودد إلیهم حتى یمکنهم المبادرة إلى الإنابة والرجوع إلى سبیل الحق.

وهذا الالتفات من الخطاب إلى الغیبة قد ورد فی القرآن الکریم: ]قُلْ یا عِبادِیَ الَّذینَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّه‏[ (الزمر، 53)، إذ ینادی العباد المسرفین وینتسبهم إلى ذاته سبحانه إعداداً للقبول وإطماعاً فی النجاة (ابن عاشور،1393ق،ج24،ص112)، ثم یستفید من الغائب فی صلة الموصول، لیبعدَ هذه العباد من السلبیة الموجودة فی جملة "أسرفوا".

وهکذا لا یخاطبهم الإمام ولا یستعمل صیغة الخطاب إلا فی حدیث عن الخلافة، وحبهم لها هو الذی دمّر الاسلام، وهنا یوجد دلیلان فی اظهار المخاطب المستتر، والانتقال من صیغة الغیبة إلى المخاطب، وهما أولاً: إیجاد التقارب بین الدنیا و الناس، وثانیا: بیان شدة انتساب الدنیا إلى الناس إثرَ تعریف الدنیا بالإضافة إلى ضمیر "کم"، کما یُبعِدُ u نفسه وآماله عن الدنیا بحصرها بضمیر "کم" فیقول: "دنیاکم هذه".

ربما یرید الإمام علی u أن یشیر إلى مضمون عمیق المعنى، وهو بُعده عن الخلافة الحقّة التی انحرف مسارها، وأصبحت بعیدة عن منهاج الرسالة، وکذلک ربما أراد إظهار زهده فی الخلافة إلاّ بعد قیام الحجّة بوجود الناصر وغیره، الذی نسمیه "تغییب الخلافة"، فقد ورد هذا الضمیر 15 مرة فی الخطبة، دون أن یذکر له مرجع، کأنه u یتعمد فی حذف کلمتی الخلافة والحکومة عن کلامه؛ لأنه لا یطلب الدنیا ولا یحرص على الحکومة إلاّ لنظم أمور المسلمین واستقرار العدل بین الناس، کما یدل على هذا المعنى استعمال کلمة "الأمر" حینما یقول: "فلما نهضتُ بالأمر".

المستوى الدلالی

کل المستویات اللغویّة السابقة (الصوتیّة،الصرفیّة،الترکیبیّة) لابد أن تکون حاملة للمعانی أی الدلالات، فقضیة الدلالة من أقدم ما شغلت به الحضارات من قضایا ساهم فی دراستها الفلاسفة، واللغویون، والبلاغیون، وعلماء الأصول من العرب وغیرهم، ویُعد البحث الدلالی محورًا من محاور علم اللغة الحدیث، فهو یرکّز على دور المجاز، والاستعارة، والکنایة وتحلیل المعانی المباشرة، وغیر المباشرة للنص.

المستوى الدلالی فی الخطبة

إنّ الإمام علی u استعمل الاستعارة والکنایة فی خطبته الشقشقیّة، وکما یقال: الکنایة أبلغ من التصریح، فنراه یصف الخلافة بالقمیص، والثوب، وهذا استعمال فی غایة الإبداع فی الاستعارة والکنایة حیث یقول: "تقمصّها فلان" و "سدلتُ دونها ثوباً" و"شُقَّ عِطْفَایَ"، فربما یرید أن یُشعر الآخرین بأنّ الخلافة قمیص من الله جلّ وعلا ألبسه أهله، فلیس لکلِّ امرئ أن یتقمّصه، أو ربما یقصد الإمام u أنّ القمیص عند الإنسان أکثرُ شىءٍ احتیاجاً إلى التبدیل والتغییر ویندرسُ سریعاً مع مضی الزمان و لابدّ للإنسان أن یغیر قمیصه بعد مدة من الزمان.

وکذلک استعمال الإمام u الکنایة فی کلمة "الطیر"، فبعد ما یکنّی الإمام u بانحدار السیل عن علوّ مقامه وعظمة شأنه، یزید هذا العلوّ بکنایة أخرى "إذ لیس کلّ مکان علا بحیث ینحدر عنه السیل وجب أن لا یرقى إلیه الطیر" (البحرانی،1406ق، ج1، ص ٤٢٦)، فهو یرید أن یقول: إنّ منزلتی کالذی فی السماء یستحیل أن یَرقى الطیرُ إلیها.

وأغرب ما قرأنا فی خطب الإمام u کلاما یُستعمل فیه الکنایة اللاذعة، بل إنّ الإمام u یصف فی کنایته حقیقة ذلک الرجل الثالث، فقد استعمل الامام u الألفاظ: "نافج الحضنین"، "النثیل" و"المعتلف"، فقد وردت هذه الکلمات فی کنایة واستعارة عن همِّ الخلیفة الثالث فی الأکل والشرب کالبعیر واستعداده للتوسّع بأموال المسلمین؛ لأنه نافج الحضنین، وهذا أقوى تصویر ترسمه الخطبة عن ثالث القوم، بل أعظم کلام یرد فی حقِّ هذا الرجل الذی بدّل السنّة النبویّة، وأعاد طریدی رسول الله J من بنی عمومته.

وهناک استعارة لطیفة استخدمها الإمام u وهی وصفه الناقة بعدّة أوصاف استعمل فیها الاستعارة (کُورِهَا، ضَرْعَیْهَا؛ الصَّعْبَةِ، خَبط، شِماس، نافج الحضنین، النثیل، المعتلف)، فقد تمثّل الإمام u بقول الشاعر ویشبه نفسه بالمسافر على "کور الناقة" مع المتاعب والمحن، یعنی نصیبه عن ناقة الخلافة هو التعب وعدم الراحة، فالاستعارة فی کونه على کور الناقة یعود إلى زمانه u بعد رسول الله J، وخروج الخلافة والحکومة عن مدارها الأصلی أهم میزات هذه الأیام (مرکز دراسات الشیعة، 1437ق، www.shiitecenter.ir).

ولفظة الکور فی اللغة تعنی: "مّما یُذللُ به البعیر ویُوطأ" (ابن المنظور،1402ق، ج5، ص 155).

وکأنّ الإمام u یرید أن یقول: إنّ الخلافة أصبحت ذلیلاً حینما تولاها جماعة لا یستحقون بها وفقدت جلالة شأنها بعدما جعلوها تحت أقدامهم واقتسموا الانتفاع بها کاقتسام ضرعی الناقة.

ثم أشار الإمام u إلى ضرعی الناقة والانتفاع به بصورة غیر صحیحة فنصیب الأول والثانی من الناقة الانتفاع الذی لا یستحقانه، ثمّ استعار الامام u بالناقة التی ترتبط بطبیعة الخلیفة وأخلاقه، فهناک ناقة صعبة بحاجة ماسّة إلى مداراة أحوالها، والإمام u هو الذی یتحمل مصاعب مصاحبة هذا الراکب لیُبعده عن الخطرات فی خلافته.

 

الخاتمة

إنّ من أهمَّ ما توصّل إلیه البحث من النتائج والأسالیب المتنوّعة فی الخطبة الشقشقیّة:

1ـ الکشف عن أهمیّة الکلمات فی إلقاء المعنى بالنظر إلى المادّة والصیاغة، وکذلک السجع المتکرّر فی: "خرم، تقحم"،"الکبیر، الصغیر"،"جذّاء، عمیاء"، وغیرها، فضلاً عن الإیقاع النفسی والاجتماعی فیها.

2ـ الکشف عن المستویات اللغویّة لما تحوی من جمالیّات عالیة، وخصوصا فی استعمال الزمن، والإحالة الضمیریّة، وجموع الکثرة.

3ـ الکشف عن المستوى الصوتی فی توظیف الحروف الانفجاریّة.

4ـ المستوى الصرفی فی العبارة المشهورة (زیادة فی المبنى تدل على زیادة فی المعنى)، وتأثیرها فی المعنى اللغوی، وکذلک النفسی، والإیقاعی.

5ـ استعمال الضمیر المخاطب، لیُعلن للناس عزوفه عن الخلافة، وزهده فیها، فالخلافة أدّت إلى متاعب کثیرة فی حیاة الإمام u والسبب الرئیس لتألّمه یعود إلى انحراف الدین عن مسیره الأصلی و خروجه عن وظیفته الأصلیة فی إصلاح الأمور، وابتلاء الناس بالجهالة والضلال فی حیاتهم و‌سیرهم إلى الکمال، حیث لو أنّ الأمّة أرجعت الخلافة إلى أمیر المؤمنین u لما آلت أمور المسلمین إلى هذا الوضع، فکلُّ مصیبة جرت على الإسلام منذ الاعتداء على الزهراء 5.

6ـ وقد أخذنا بنظر الاعتبار خلو الخطبة من أسلوب النداء فی المستوى الترکیبی، وکذلک خلوّها من الجناس فی المستوى الصوتی.

  1. µ القرآن الکریم

    1. آل قطیط، هشام. (1425ق). الکل یسأل وعلی یجیب. لبنان: دارالمحجّة البیضاء.
    2. ابن أبی الحدید، عبد الحمید. (1402ق). شرح نهج البلاغة. لبنان: دار الکتاب العربی.
    3. ابن جنّی، أبو الفتح عثمان بن جنّی. (1409ق). الخصائص. (ط4).  مصر: الهیئة المصریة العامة للکتاب.
    4. ابن عاشور،محمد الطاهر بن محمد. (1393ق). التحریر والتنویر. تونس: الدار التونسیّة.
    5. ابن منظور،محمد بن مکرم بن علی. (1402ق). لسان العرب. (ط2). لبنان: دار صادر.
    6. ابن هشام، عبد الله بن یوسف. (1416ق). مغنی البیب. (ط6). سوریا: دار الفکر.
    7. الأمینی،عبد الحسین. (1415ق).  الغدیر فی الکتاب والسنة و الأدب.  لبنان: الأعلمی.
    8. البحرانی،کمال الدین میثم. (1406ق). أصول البلاغة. مصر: دار الشروق.
    9. حیدر، فرید عوض. (1426ق). علم الدلالة دراسة نظریّة. (ط2). مصر: دار القاهرة.
    10.  خلیفة، محمد. (1417ق). أضواء على لغتنا السمحة.  الکویت: مجلة العربی.
    11.  الزرکشی، محمد بن بهادر. (1402ق). البرهان فی علوم القرآن. لبنان: دار التراث.
    12.  شرتح، عصام. (1431ق). ظواهر أسلوبیّة فی شعر أحمد بدوی. سوریا: اتحاد کتاب العرب.
    13. عباس، حسن. (1426ق). خصائص الحروف العربیّة ومعانیها.  سوریا: اتحاد کتاب العرب.
    14. عبده، محمد. (1427ق). شرح نهج البلاغة.  إیران: ذوی القربى.
    15.  الفخرالرازی، محمد بن عمر. (1406ق). مفاتیح الغیب. ( ط3). لبنان: إحیاء التراث العربی.
    16. فضل، صلاح. (1426ق). النظریّة البنائیّة فی النقد الأدبی. لبنان: التراث العربی.
    17. المبارک،مازن. (1428ق). الموجز فی تاریخ البلاغة. (ط2) لبنان: دار الفکر المعاصر.
    18. مختار، أحمد. (1432هـ). علم الدلالة. (ط7). مصر: عالم الکتب.

     

    المواقع الإلکترونیة

    1.  مرکز دراسات الشیعة، 1437ق: www.shiitecenter.ir
    2.  فی رحاب نهج البلاغة، 1425ق: www.arabic.balaghah.net