نوع المستند : المقالة البحثیة
المؤلفون
أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بالجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية، مشهد، إيران
المستخلص
الكلمات الرئيسية
الموضوعات الرئيسية
عنوان المقالة [English]
المؤلفون [English]
Artworks analysis in periods was influenced by surrounding factors like the author’s life and political, social, and cultural situation, which can affect the analysis of the original text and structure. The emergence of Russian formalism at the beginning of the 20th century in literary criticism was the end point of that extroverted approach and the beginning of text research away from its margins. In this case, both the external factors and contexts and the structural components of the work should be used for a better understanding.
Formalists tried to free the text from peripheral issues by focusing on the structure of the literary work and its centralization and to find out the text’s message by examining its governing order. Therefore, the distinction of the work of art from other works should be found in its connection with the outside world, the artist, and the audience and in the form of the work itself. Formalists believed that the criteria for evaluating the literary and artistic aspects of the work should be found in the literary text.
This research used the formalist approach to analyze the ode of the Iraqi poetess Al-Qamar Al Muzdalifah. In this ode, the poetess tried to depict the image of Hajj rituals and its high epistemic themes in an artistic and thought-provoking tableau of three perspectives in harmony with the spiritual journey of the pilgrims in this spiritual journey.
The conscious use of verbs in processing Nazik's idea of Hajj is noteworthy. Verbs express vivacity, dynamism, and transformation, transformed in line with pilgrims' inner and intellectual transformation. The verbs are first absent (he and they), then change to the addressee (you), and finally to speech (I and we). Pilgrims experience this transformation process in Hajj rituals as strangers to each other at the beginning. Then, they communicate and then join and unite.
The poetess arranged the poem’s structure to represent the unique transformation that occurs in the Hajj rituals. Pilgrims from all over the world gather in the land of revelation and prophecy, alien from each other and far from the truth of pure Muhammadian Islam. Then, these people join together in these rituals and regain their lost identity. The rites end when the large groups of pilgrims return to their lands as a single and conscious body with common goals and pains.
In this descriptive-analytical study, the ode is divided into three parts, and each part is analyzed based on the theory of Russian formalists. The authors studied the words and imagery of the poet using the defamiliarization technique to bring highlights to the reader's eyes based on aesthetic principles.
Formalist analysis of the ode shows that the poetess tried to eliminate the reader’s habit and give a new and updated interpretation of the ancient ritual of Hajj by lexical and expressive defamiliarization. Pilgrims go from self-loss and alienation to self-belief and familiarity in a journey of knowledge and reach a common understanding with their fellows. Ultimately, they return to their land as a united nation until another season and visit. Conceptually, the flow of verbs in the ode aligns with the cognitive evolution of Hajj. Nazik used defamiliarization, metaphorical, and virtual images in her imagery. In the alienated images, Hajj goes beyond a set of religious, imitative, and inherited rituals and becomes a spiritual, human, and social opportunity as a salve for the concerns and sufferings of contemporary man.
Therefore, the poetess linked the distant past and present reality to show that the Hajj ritual is not a parrot-like imitation of the beginning of Islam and has a deep connection with the spirit of our time. Considering the significant contribution of the humanitarian dimension in this ode, humans, the female element, nature, and dark and light colors play a prominent role in the depictions. Nature is not lifeless, soulless, and devoid of intelligence and understanding. The moon is mystic and beautiful, with lots of secrets. Pebbles either smile or evoke the scent of the Prophet's footsteps. Continuous questions and calls created a heated and dynamic atmosphere.
الكلمات الرئيسية [English]
إنّ الاهتمام بالشكل والعلاقة بين الصورة والدلالة، يعود إلى بدايات الدراسات البشرية في الفن والأدب والفلسفة؛ لكن الشكل بوصفه مصطلحا نقديّا خاصا، يعود إلى بدايات القرن العشرين، حيث شهد الوسط الأدبي بزوغ كلمة نقدية على يد طائفة من النقّاد الروس الذين أثّروا في المسار النقدي تأثيرا انبثقت عنه التيارات النقدية والمدارس اللسانية من بعدهم.
كان النقد الأدبي قبل هذه المدرسة، خجولا يحوم حول النصّ وخلفياته التاريخية والاجتماعية والأخلاقية وما إلى ذلك، فيقف على عتبة النصّ؛ لكنّ الشكلانية[1] ركّزت عدسة البحث على النصّ ذاته وعناصره، دون العوامل الخارجية.
أراد الشكلانيون بذلك خلق أجواء جديدة يظهر النقد فيها علما مستقلًا له منطلقاته وآفاقه، ومناهجه واهتماماته وقضاياه. (بايك، 1979م، ص 50). إنّ الموضوع الذي يستحقّ التأمّل في النقد الأدبي هو الأدبية على حدّ تعبير رومان ياكوبسون يريد به ما يميّز الأدب عن جميع ما سواه من الظواهر. وانطلاقًا من إيمانهم بالفصل التامّ بين لغة الشعر والأدب، واللغة اليومية، أخذ الشكلانيون يتحرّون عن مقوّمات بحتة نزيهة من أيّ علائق أو شوائب، كي يجعلوها تحت مجهر بحوثهم التحليلية النقدية للبحث لاحقا. وبناء على هذه الرؤية المتباينة، رفضوا كثيرا من المواضيع المرشَّحة للأدبية، كما صرّح بذلك رومان ياكوبسون قائلًا: «ليس بمقدورنا تعريف الأدب عبر تناول حالة متميّزة للشاعر أو موضوع متميّز أو توظيف الاستعارة، والصورة على ما هما عليه وبواقعهما الراهن« (1987م، ص 369).
إنّ اللغة اليومية تُستخدَم أداةً لإيصال رسالة عن الكون أو إثارة الآخرين أو تعزيز التواصل الاجتماعي؛ بينما اللغة الأدبية لا يهمّها التواصل بهذا المفهوم. إنّ واجب اللغة الشعرية يتلخّص في لفت الأنظار إلى نفسها باعتبارها لغةً. وبلور رومان ياكوبسون هذه الفكرة قائلًا: «إنّ الأدبية تتجسّد حينما نستشعر وجود الكلمة باعتبارها كلمة، لا مجرّد تمثيلٍ للمسمّى، أو فورة العاطفة؛ أي حينما تكتسب الكلمات ونظمها، ودلالتها، وشكلها ... وزنها وقيمتها، بدلًا من الإشارة المحايدة إلى الواقع» (المصدر نفسه، ص 378)؛ بتعبير آخر، إنّ اللغة الشعرية قائمة بنفسها، مكتفية بذاتها في قيمتها الجمالية.
ويستمدّ البحث ضرورته وأهميته من أمرين: هما أوّلًا، الحجّ، باعتباره شعيرة دينية ذات أبعاد اجتماعية وثقافية وسياسية وما إلى ذلك، تترك تأثيرات نوعية في الفرد المسلم والأمّة الإسلامية؛ وثانيًا، استجلاء الرؤية الجديدة التي أبدعتها الشاعرة عن هذه الشعيرة، وربطها بواقعنا الراهن عبر تجديد صورتها المألوفة التي طالما علاها غبار الرتابة والنمطية.
وبناء على ذلك، يهدف البحث إلى الكشف عن مقوّمات الشكل النصي وعناصره الفنية والجمالية، مجيبا عن سؤال رئيس، مفاده كالآتي: كيف يتشكّل النص الأدبي لدى نازك الملائكة في قصيدتها الزاخرة بالصور والأخيلة؟ ما دلالات الصور الفنية والأخيلة في القصيدة؟
1ـ1. خلفية البحث
أسالت أعمال نازك الملائكة حبرا كثيرا من أقلام الباحثين؛ وهذا غيض من ذلك الفيض:
هناك مقالة بعنوان نقد اللون الأحمر والأخضر ودراستهما في أشعار نازك الملائکة، من تأليف علي بيراني شال وزميلتيه، عام 1435ﻫ، تناولت المقالة دراسة اللون الأحمر والأخضر في البناء الشعري عند نازك الملائکه بالمنهج الوصفي ـ التحليلي والإحصائي؛ وكما يبدو من العنوان، ينحصر البحث في استكناه دلالات اللونين الأحمر والأخضر.
ويطالعنا بحث آخر تحت عنوان مستویات الأداء اللغوي في أشعار نازك الملائکة: دراسة وتحلیل، لمریم رحمتي ترکاشوند، وأشرف مانع فرهود، عام 1440ﻫ؛ تناولت الباحثتان کیفیة استخدام نازك الملائکة اللغة الشعریة ودراسة طبیعة الألفاظ التی تتناولها ودلالاتها المعنویة، وخلصتا إلى أنّ مستویات الأداء اللغوی عند الشاعرة خمسة كالآتي: الأداء بلغة الموروث، واللغة المحکیة، ولغة الحزن، ولغة الحبّ، واللغة الرومنسیة.
وهناك مقالة معنونة بالصورة الشعرية عند نازك الملائكة، لسامية آجقو، صدرت عام 2010م؛ حاولت الباحثة إلقاء الضوء على جمالية صور شعرية متفرقة انتقتها من أعمال الشاعرة.
وإلى جانب المقالات، نجد أطاريح كثيرة حول الشاعرة، منها:
تجربة نازك الملائكة الشعرية: دراسة بنيوية سيميائية، لرياض عباس الطفيلي عام 2003م؛ تناول الباحث فيها الأداء الشعري للشاعرة من خلال مستويات التعبير الإيقاعية والنحوية وما إلى ذلك، مستشهدا بنماذج شعرية من دواوين الشاعرة؛
وأسلوبية اللغة عند نازك الملائكة، لجبار إهليل زغير محمد الزيدي المياحي، عام 2011م؛ ناقش الباحث أحوال التعبير من ذكر وحذف وما إلى ذلك، وكذلك الأنساق التعبيرية في أعمال الشاعرة، كما أن هناك بحوثا باللغة الفارسية حول نازك الملائكة ليست وثيقة الصلة بموضوع البحث؛ فكما لاحظ القارئ الموقّر سلّطت البحوث المذكورة الضوء على موضوعات محدّدة وبمقاربات مختلفة، واختاروا شواهد متفرقة في أرجاء دواوين الشاعرة؛ لكن هذه المقالة تناولت قصيدة واحدة لم تحظ بعناية الباحثين.
قبل أن يجوب صوت المدرسة الشكلانية أرجاء الساحة النقدية، كان أصحاب كلّ علم وفنّ يفسّرون الأدب على أساس منطلقاتهم الفكرية والعلمية. أمّا الأدب فقد كان دوما هو الغائب أو المغيَّب عن عملية التفسير والتحليل؛ بعبارة أخرى، كانت الدراسة الأدبية دراسة بينية تُسمَّى أدبيّة، والغلبة كانت لغير الأدب من فلسفة، واجتماع، وتاريخ وعلم نفس، وغيرها. بالطبع لا مجال لنكران الصلات الوطيدة للأدب بكلّ من المجالات العلمية المذكورة؛ خاصة إذا عُدَّ الأدب نتاجا إنسانيا. على هذا الأساس، إنّ ميزة العمل الأدبي هي أدبيته فحسب. فيما يلي، نلقي نظرة إلى أسس الشكلانية وملامحها.
إن الشكلانيين لا يهمّهم ماذا قال الأديب؟ أو لماذا قال؟، بل إنّهم يسعون وراء استكشاف كيفية إقرار النظم في العمل الأدبيّ. وإذا نجح الناقد في ذلك، فيمكنه استكشاف الفكر الذي ينطوي عليه العمل الأدبي. على غرار تينيانوف الذي يرى أنّ مهمة الناقد الرئيسة ليست دراسة الجوانب الثانوية أو الخارجية من ذاتيات العمل الأدبي كعلم النفس، حيث إنّ هذا العلم وغيره يقف على عتبات العمل الفني، ولا يستطيع أن يغزو العمل في مختلف مستوياته (تودوروف، 1996م، ص 120 ـ 134؛ أبوهيف، 2000م، ص 408).
أمّا المضمون، والأفكار، والشكل، فلا يقيم الشكلانيون وزنا لها في عملية النقد؛ لأنّها في رأيهم تفتقر إلى الهوية الأدبية، أي أنّها ليست وليدة الأدب، وجلّ ما يمكنها أن تؤدّي من دور في العمل الفني هو التمهيد لتقنيات يستخدمها الأديب الفنّان في عملية الإبداع الأدبي (سلدن، 2006م، ص37). يبحث الناقد الشكلاني عن الفنون التعبيرية الجمالية، ومنها: «الموسيقى، والوزن، والقافية، والتصوير، والخيال، والنحو، وكلّ ما يُعَدّ من العناصر الشكلية للنص» (إيغلتون، 1995م، ص 6).
الجدير بالذكر أنّ الناقد الشكلاني لا ينكر التاريخ وعلم الاجتماع بالذات؛ بل يقول لو كان الناقد ذا رصيد معرفي تاريخي، لاستطاع استخلاص الجانب التاريخي من خلال العمل الفنيّ وحده (فضيلت، 1373ﻫ.ش، ص 330 ـ 331؛ عوض، 1994م، ص 15).
حوّلت الشكلانية مسار البحث الأدبي من الأدب إلى الأدبية. فعلم الأدب ليس هو الأدب، وإنّما هو الأدبيّة، أي ما يجعل من عملٍ ما عملا أدبيّا (ياكوبسون،1973م، ص 15)، أو بتعبير ثانٍ دراسة قوانين الإنتاج الأدبي؛ طرح ياكوبسون[2] على بساط البحث الفكرة نفسها متسائلًا: ما الشيء الذي يجعل من رسالة لغوية ما عملا فنيا؟ (ياكوبسون،1963م، ص 210)، وكان من وراء الإجابة عن هذا السؤال المركزي، يسعى إلى استكشاف الهدف الأساس من الشعر، وتوفير إمكانية الفصل بين ما هو أدبيّ، وما لا يمتّ إليه بصلة.
إنّ الأدب في المنظور الشكلاني، توظيف متفرّد للغة. والناقد الشكلاني لا يعتبر اللغة أداة لنقل المعنى، بل يرى أنّ المناط في مفاضلة الأدباء هو كيفية التعبير وخصائص صياغة الأفكار، لا الأفكار نفسها. هذه نظرة علمية بحتة إلى اللغة تلائم طبيعة الدرس اللساني.
لقد ميّزت المدرسة الشكلانية بين لغتين: لغة يومية، وأخرى شعرية. أمّا اللغة اليومية، فأداة تتّسم بالمباشرة والوضوح؛ ولذلك تأهّلت لتكون ناطقة باسم العلم، كما نلاحظ في النثر العلمي؛ أمّا اللغة الشعرية، فلا تمثّل أداة، بل هدف بذاتها، وتتميّز بالإيقاع، والخيال، وتعدّدية المستويات، والعمق، والغموض. لا يفوتنا أنّ التعبير الأدبي يفقد روعته عقب استخدامه المفرط، وتصيبه الآلية أو النمطية[3]؛ حينئذ يلجأ الأديب البارع إلى التغريب[4].
تناط باللغة الشعرية حيازة أبعاد اللغة والحفاظ على عمقها واتّساعها ورحابتها. على هذا الأساس، ركّز الشكلانيون على التغريب. يعرّف برنس التغريب (نزع المألوفية) بأنّه إعاقة طرق الإدراك الآلية الاعتيادية. يؤكّد شكلوفسكي[5] على أنّ «الهدف من فن الأدب تعزيز الإدراك» (برنس، 2003م، ص 42). ينشأ التغريب عن التقنية (مجموعة الحيل الفنية والأدوات المستخدمة) التي تجعل المألوف غريبا وتنزع عنه مألوفيته عن طريق إعاقة الآلية، وتكسح مظاهر الآلية أوتلغيها.
إنّ التغريب يتمّ توظيفه في أكثر من مستوى؛ ليقدر الأدب على تحديث نظرتنا إلى الكون والحياة وما فيهما من ظواهر وقضايا، وكأنّنا لم نعهدها من قبل. يقول شكلوفسكي: «إنّ الشكل الحديث يظهر بغية تغيير شكل قديم طالت حياته أكثر من نفعيته الفنّية، لا بغية التعبير عن مضمون حديث» (شكلوفسكي،1990م، ص 20). وكشف توماشفسكي[6] دور هذه التقنيات التعبيرية، وولادتها وزوالها، قائلًا: «تولَد التقنيات، وتعيش، ثمّ تشيخ وتموت، كلّما كان استخدامها أدخل في الآليّة والرتابة، تضاءلت نفعيتها وتأثيرها، ولم تعد قادرةً على البقاء في قائمة الفنون والتقنيات المقبولة، فلا مندوحة من تقنيات مستحدثة محمَّلة بمعانٍ جديدة وأداء جديد، للحؤول دون آليّة التقنيات ونمطيتها» (توماشوفسكي، 1965م، ص 95). نستشفّ من هذا التصريح أنّ الأدب لا يمكنه البقاء إلّا إذا تمكّن من ارتياد آفاق غير مطروقة.
لا يمكن للمتلقّي في ضوء الرؤية الشكلانية أن يحلّق في أجواء العمل الأدبي إلّا عبر استيعاب الشكل؛ والسبب في ذلك يعود إلى أنّ «الخصلة المتميّزة للرؤية الفنية هي مبدأ الإحساس بالشكل» (تودوروف، 1993م، ص 10)، وحينما يدركه المتلقّي يستكشف ميزات الشكل الفنية. يذهب الشكلانيون إلى أنّ «الإدراك الفني هو ذلك الإدراك الذي نتحقّق فيه من الشكل. وأنّه من الواضح أنّ الإدراك الذي نحن بصدده ليس مجرّد حالة سيكولوجية، وإنّما هو عنصر من عناصر الفنّ، والفنّ لا يوجد خارج الإدراك» (المصدر نفسه، ص 41).
يقودنا التأمل في هذا الرأي إلى أنّ التلقّي لا يتم إلا بإدراك الجماليّة وأشكالها المتسمة بالجدّة والغرابة، ثمّ إنّ الآليّة والرتابة اللتين تعروان الأشكال الأدبيّة لا تتوقفان على الأشكال فحسب، بل تتعدّيانها إلى الإدراك أيضا. يقول شكلوفسكي في هذا الشأن: «إنّ الإدراك سيصبح آليّا حين يتحوّل إلى عادة» (المصدر نفسه، ص 23).
ومن أجل معالجة هذه المشكلة، طرح الشكلانيون آليّات أو تقنيات تقضي على الآلية وتزيل الرتابة من الشكل وبالتالي الإدراك، إلّا أنّ هذه التقنيات تنطلق من مبدأ واحد، هو وظيفة الفن المتمثلة في إعاقة الإدراك وتأجيله أو تعقيده. فـ«تقنية الفنّ هي جعْل الأشياء غريبة، وجعْل الأشكال صعبة، مضاعفة، فإنّها تزيد صعوبة الإدراك وطوله؛ لأنّ عملية الإدراك غاية جماليّة بنفسها، وينبغي أن يطال أمدها» (نيوتن، 1996م، ص24)؛ إذن كلّما طال الإدراك، ودام أمده، ازداد تأثيره وتعمّق، وأحسّ المتلقّي بجدّة الشكل وبوعي حديث.
هذه القصيدة تجربة روحية دينية خاضتها الشاعرة نازك الملائكة، تلقي من خلالها نظرة على واقع الأمة الإسلامية وآلامها، وتحاول معالجتها برؤيتها الجريئة. يشعر القارئ في القصيدة بجدلية التشاؤم والتفاؤل التي تعكس حالات الاغتراب التي عاشتها الشاعرة. حالة الاغتراب هذه باطنية روحية أكثر من كونها اغترابا اجتماعيا أو عاطفيا أو سياسيا.
والمراد بالاغتراب الروحي هو «تلك الحالة التي يشعر فيها، الفرد بانفصاله من ظرف انساني مثالي فيتطلّع ـ تبعا لذلك ـ إلى الانعتاق من العالم المحيط به إلى عالم من صنع نفسه ...؛ هذا الاغتراب هو نتاج تراكم عدة أنواع اغترابية كالاجتماعي والعاطفي وسواهما؛ إذ إنّ تعاقب الإخفاقات والإحباطات تؤدي بالإنسان إلى اعتزال واقعه اعتزالاً كلياً أو شبه كلي، وسعيه إلى بلوغ واقع آخر لا وجود له إلا في تصوّره؛ ... فقد عانت نازك الملائكة من الاغتراب الروحي ...، فعشقت الليل، وزهدت في الحياة، واهتز إيمانها، وها هي الآن تبحث عن المُثُل العليا، بعد أنْ رأت الحياة جدرانا صلدة ...، فتحاول أن تخترقها إلى بؤرة من الإشعاع القدسي، لتنعم بالنقاء، والسمو، وتعانق روحها ذلك الصفاء السرمدي الخالد» (جعفر، 1999م، ص 47).
تلقّت الشاعرة نازك الملائكة، دعوة رحمانية إلى مأدبة روحيّة يقيمها اللّٰه تعالى كلّ عام في بيته العتيق على شرف ضيوفه المؤمنين، فحلّت ضيفة علی ربّ البيت الحرام ضمن الجموع البشرية الوافدة من كلّ فجّ عميق. وفي ليلة مقمرة حالمة علی أرض مزدلفة، اكتنفتها أجواء شعرية روحية، فتدفّقت قريحتها الصافية، مكتسية بكلماتها الانسيابية، ترسم لوحة إنسانية صادقة، عن الحجّ ودلالاتها الروحية المعرفيّة، تزيد القارئ شغفا ما بعده شغف.
تتكوّن القصيدة من لوحات شعرية ثلاث، تتلاقی لحمة وسدی في ألوان، وأضواء، وظلال؛ فتلوح اللوحة الفنية الممتدّة وصورها الجزئية، كما يلي:
بهذه اللوحات الثلاث، ترتسم أمام القارئ لوحة كبری تؤلّف بؤرة الاهتمام، ومنطلق اليقظة والتحرّر من المرارة والحرمان والجهل إلی الراحة، والوعي والهناء والمعرفة. تلفت انتباه المتلقي باقة من الأفكار الجريئة الرافضة للواقع المأساوي الذي تعيشه الأمة الإسلامية.
تبدو القصيدة صرخة في وجه أمّة نائمة مستسلمة لألوان الجهل والخرافة والمعاناة والاضطهاد. وفي الوقت نفسه، تبعث الشاعرة بكلماتها وصورها الرجاء والتفاؤل في نفوس المتلقّين. ولعلّ أهمّ الأفكار وأجلاها تتبدّی البعد الإنساني الاجتماعي للحجّ وتصحيح الرؤية عنه.
تُعرَف الشاعرة بهمومها الإنسانية والاجتماعية، وظلّت وفيّة له ملتزمة بها طوال عطائها الشعري. وقد كان لتأثرها بالمذهب الرومنسي في الأدب أثر بالغ في تعميق شعورها الانساني الاجتماعي، كما نلاحظ في قصيدة النائمة في الشارع والكوليرا، حيث تركّزت علی البعد الإنساني. فالقصيدة كلّها حديث من وعن وإلی الإنسان الذي يراد شراؤه بثمن بخس دراهم معدودة في سوق نخاسة العصر. والحجّ فرصة سانحة ليستعيد البشر هويّتهم السليبة مثنى وفرادى.
منذ كلماتها الأولی، تصبّ نازك جلّ اهتمامها في تصوير مناسك الحجّ، وقد عدت كونها شعائر فردية، فتسعی جاهدة لتثبت أنّك تقطع المسافات الشاسعة لئلّا تهتمّ بنفسك بعيدا عمّا يجري من حولك، بل لتنسلخ عن وحدتك وتعيش للآخرين ومعهم، علی اختلاف ألوانهم وأجناسهم. ومن هنا، أجالت الشاعرة بصرها في أرجاء مزدلفة وقد زالت بين الحجيج فروق الألوان والأجناس والأوضاع الاجتماعية يجمعهم الإيمان باللّٰه وحده، واستلهمت هذا المشهد العظيم لتمدّ بين أبناء أمّتها جسرا من التضامن والتكافل والتراحم يمتدّ من أقصی العالم الإسلامي إلی أقصاه من مجاهيل الفلبين إلی فلسطين وتونس. وبهذا، تنهار الحدود المزيفة وتفقد مصداقيتها في رؤية الشاعرة.
لا تری الشاعرة رسالتها مقتصرة علی إبراز الجوانب القاتمة من الواقع الإنساني المرّ فحسب، بل تخز وخزة عميقة في ضمير الإنسان لتثير في ذهنه أكثرمن علامة استفهام تلحّ علی الإجابة: لماذا قدمت إلی هذه الأرض؟ لمن تسجد؟ من ترمي وترجم؟ وماذا تقذف؟ وكيف ترجم؟ حينئذ يفطن المتلقّي إلی حكمة الحجّ نافذا إلی لبّه، فيجد أنّه لا يرجم مجرّد نصب، بل يرجم فيها الشيطان والفقر والمذلّة والظلم والخرافة وما إلی ذلك.
تخاطب الشاعرة الجياع والبؤساء باكية عليهم، وهي تجد نفسها أمام رجال ونساء، وشباب وشيوخ، وصغار وكبار، طالما اعتراهم اليأس والكآبة وهدّهم الجوع، وأنهكهم الشقاء، وبراهم الخوف بري القداح، علی وجوههم جراح غائرة ضاربة جذورها في قاعات سحيقة من الزمن الغابر، علی خدودهم اصفرار الشمس المؤذنة بالرحيل، ليلهم أصمّ. وفي ظلّ هذه المشاهد المؤلمة، تصوغ نازك شعرها تنفيسا عن أحزانهم، ومآسیهم، وتحيي الرجاء في قلوبهم وتعيد الأمل إليها، وتجعل عيونهم ترنو صوب القمر المصلّي علی واديهم وترسي بهم في شطّ السكون، تذكّرهم باللّٰه وتُرِيهم إيّاه قمرا، وتصوّر اللّٰهَ تنفُّسَ صبح العدل في ليل الحزين، مُطَمْئِنَة إيّاهم بأنّ اللّٰه لن ينساهم. وفي ضوء هذا الأمل المشعّ، تتغيّر ملامح الحجّ لديهم؛ إذ تتحوّل الصخرة حلوی وابتسامة وكرمةً شهيةً و...، فيتفاءلون في حياتهم ويبدو الموت لهم قُبلة هي فاتحة لحياة رغدة. وفيما يلي ننعم النظر في تفاصيل القصيدة من خلال اللوحات الثلاث المذكورة.
3ـ1. اللوحة الأولى: على عتبة الحضرة الإلهية
تبدو نازك كرحّالة تصف في مطلع القصيدة أحوال الحجيج في الرحلة، حيث تعرّف برفاقها في موسم الحج، وتحدّد الزمان والمكان والطبيعة، مستهلّة لوحتها هذه بتصوير الحجيج من بعيد، وهم ينحنون ويجمعون الحصى تحت ضوء القمر، وتقول:
يَنْحَنُونْ / يَجْمَعُونَ الصَّدَفَ الأَبْيَضَ فِي شَطِّ السُّكُونْ / وَيُصَلِّي فَوْقَ وادِيهِمْ قَمَرْ / ضَوْؤُهُ أَشْرِعَةٌ عَبْرَ نَهَرْ / وَجْهُهُ رِحْلَةُ صُوفِيٍّ وَأَسْرارُ عُيُونْ / قَمَرٌ يُمْطِرُ زَخَّاتٍ مِنَ الرُّؤْيا وَأَقْداحَ صُوَرْ / هُدْبُهُ لِلرُّوحِ رِحْلَه / وَصَلَاةٌ وَأَهِلَّه / وَالصُّخُورُ البِيضُ فِي مُزْدَلِفَه / سُنْبُلاتٌ وَمَرايا / شَمْعَداناتٌ وَضِحْكاتُ صَبايا / وَدُمُوعٌ عَذْبَةٌ مُنْذَرِفَه / مِنْ جُفُونِ القَمَرِ المَكْسُورِ آلافَ الشَّظايا / ضَحِكَتْ كلُّ شَظِيَّه / كَعَرُوسٍ طَلَعَتْ مِنْ صَدَفَه / رَشَّتِ اللَّيْلَةَ مُوسِيقًى / وَوَهْجًا / وَتَحايا / سَبَّحَتْ للّٰه عَذْراءَ نَقِيَّه / قَبَّلَتْ أَسْمَاءَهُ الحُسْنَى، وَصَلَّتْ بِشِفاهٍ مَرْيَمِيَّه / صَلَواتٍ لَدْنَةً[8] مُرْتَجِفَه» (2002م، ص 502 ـ 503).
تضمّ اللوحة الأولى ثلاثية متشابكة الظواهر هي الحجيج، والقمر، وصخور الوادي. ترمز الأفعال الغائبة هنا إلى غياب الوعي بالذات والمكان المقدّس الذي توافدوا إليه، وهويّتهم السليبة. اكتفت الشاعرة بهذا الوصف المقتضب، لتوحي بأنّهم لم يدركوا بعدُ جلالَ الموقف. أمّا الحصى الذي يجمعه الحجيج، فتغيّر إلى الصدف الأبيض. وإذا كان الصدف رمزا لحقيقة الإنسان الذي نفخ اللّٰه تعالى فيه من روحه، وأودعه الفطرة، فإنّ الأبيض ينطوي على دلالات النقاء والبراءة. هذا التعبير في غاية الإيجاز والكثافة الدلالية وألمحت الشاعرة باستخدامها إلى أنّ الحجيج جاؤوا ليستكشفوا عبر رحلة الحجّ حقيقتهم المنسية، حينئذ يمكنهم الظفر بالدرّة اليتيمة التي أودعها اللّٰه كلّ واحد منهم، شريطة الوعي بما لمناسك الحجّ من أسرار. أمّا المكان فهو شطّ السكون الذي يعيش فيه المسلم الأمان، بعيدًا عن العالم الصخّاب المتأزّم من حوله.
واللافت في هذه القصيدة، صورة الطبيعة التي تعدو كونها صامتة، ترسم الشاعرة الطبيعة مختلفة عن الصورة المألوفة لدى المتلقّي: «ليست [الطبيعة] جمادا يشخّص، بل هي مجال حيّ يزخر بالكائنات والقوى الخفيّة والمنظورة على حدّ سواء» (الـﭬرﭬوري، 1988م، ص 141). الأمر الذي يجعل القارئ يعي ظواهر الحياة واعية، شاعرة على الرغم من أنّها تبدو جامدة بلا روح.
ومن هذا المنطلق، يطلع القمر في هيئة تشخيصية مفعمة بالحياة والوعي، يصلّي بوجه صوفي صبيح المحيّا، وذي عينين مملوءتين بالأسرار، يضفي على الكون الرؤيا. استعانت الشاعرة بأوصاف توحي بحركية الحجّ؛ فهناك وجه الصوفي الذي يسلك المنازل إلى اللّٰه تعالى، والأشرعة الخفّاقة للسفن، والرحلة؛ إذن الحجّ رحلة روحية معرفية أوّلا؛ وثانيا لولا تلك الرحلة الروحية لما أصاب الحاجّ من رحلة الجسم إلّا وعثاء السفر.
وبشكل عام، يجوز القول إنّ اللوحة الأولى لوحة استهلال بارع أفرغت فيها الشاعرة رؤاها وأفكارها الرئيسة في صور مترابطة جدّ مكثّفة. وهكذا قدّمت الحجّ في لوحة فنية ركيزتها التغريب. اللوحة الأولى لوحة الغياب، ورسمت الشاعرة الحجيج من الخارج، وهم على عتبة وادي المعرفة الإلهية.
3ـ2. اللوحة الثانية: الواقع المأساوي، وبعث الرجاء والتفاؤل
تنتقل الشاعرة في اللوحة الثانية بالمتلقّي من الطبيعة، إلى تصوير الحجّاج؛ فإنّها وصف خارجي تفصيلي تناول وجوه الحجّاج بدقائقها، وصف للوجوه والشفاه والعيون والجباه، هذا الوصف الخارجي يحيلنا إلى دلالات باطنية روحية عميقة دونما تصريح:
يا صَبِيَّه / يا خُدُودًا أَسْيَوِيَّه / مِنْ مَجاهِيلِ الفِلِبِّينِ القَصِيَّه / يا شِفاهًا تَمْتَمَتْ بِالتَّلْبِيَه / يا يَدًا تَجْمَعُ فِي الكِيْسِ حِجاراتٍ وَتَبْكِي وَتُلَبِّي / وَاسْمُ رَبِّي / خافِتٌ فِي شَفَتَيْها كَخُفُوتِ التَّضْحِيَه / رَشْرَشَتْهُ فِي سُكُونِ الأَوْدِيَه / شُرْفَةً ضَوْئِيّةً أَوْ مَقْطَعًا مِنْ أُغْنِيَه / يا صَبِيَّه / يا عُيُونًا مَجْدَلِيَّه / يا اخْتِلاجاتِ شِفاهٍ شَفَقِيَّه / ما الَّذِي تَلْتَقِطِيْنْ؟ / وَلِماذا عَبْرَ آمادِ[9] الدُّجَى تَنْتَحِبِيْنْ؟ / صارَتِ الصَّخْرَةُ فِي كَفِّكِ دَمْعَه / مِنْ عُيُونِ المُسْلِمِينْ / فِي جَنُوْبِ الفِلِبِّينْ / يا صَبِيَّه / يا جِراحًا قِرْمِزِيَّه / أَنْتِ فِي العَتْمَةِ بَجْعَه / سَبَحَتْ فِي حِضْنِ تُرْعَه / دَمْعُها يَقْطُر، إذْ تَذْكُرُ جُرْحًا غارَ فِي أَلْفِ جَبِيْن / فِي بِلاد الفِلِبِينْ / رُبَّ دَمْعَه / صَيَّرَتْها لَمْسَةُ اللّٰه نُجُومًا وَأَشِعَّه / إِنَّ رَبِّي قَمَرُ المُسْتَضْعَفِينْ / وَانْبِلاجُ العَدْلِ فِي لَيْلِ الحَزِيْنْ / لَيْسَ يَنْسَى اللّٰه شَوْكًا وَجِراحًا / فِي خُصُورِ البَشَرِيَّه / لَيْسَ يَنْسَى يا صَبِيَّه / وَعَجُوزٌ تُونِسِيَّه / تَجْمَعُ الصَّخْرَ مِنَ الوادِي وَفِي كَأْسِ لَيالِيها بَقِيَّه / يا طُقُوسَ المَوْتِ، يا إِغْماءَةَ المُحْتَضِرِينْ / يا اصْفِرارَ الشَّمْسِ فِي الغَرْبِ، وَيا وَجْهَ الضَّحِيَّه / يا ذُبُولَ الوَرْدِ وَالعُنّابِ، يا جُرْحَ السِّنِينْ / ما الَّذِي تَحْتَ الدَّياجِي تَلْتَقِطِينْ؟ / وَلِمَنْ تَبْتَسِمِينْ؟ / صارَ فِي كِيْسِكِ عِطْرٌ مِنْ بَقايا الخُطُواتِ النَّبَوِيَّه / وَحَصَى الذِّكْرَى تَسابِيْحُ شَذِيَّه / صارَتِ الصَّخْرَةُ فِي كَفِّكِ حَلْوًى وَابْتِسامَه / لِيَتِيْمَيْنِ مِنَ القُدْسِ السَّبِيَّه / صارَتِ الأَحْجارُ ظِلًّا وَغَمامَة / أَمْطَرِتْ أَنْقاضَ «بِيْسَانَ» و«رامَه» / وَتَبَسَّمْتِ وَصارَ الوَرَقُ الأَصْفَرُ أَزْهارًا فَتِيَّه / يا عَجُوزًا رَدَّها الحَجُّ صَبِيَّه (2002م، ص 503 ـ 505).
إذا كانت اللوحة الأولى لوحة الغياب، ومحدّدة بحدود أرض مزدلفة؛ فاللوحة الثانية هي لوحة خطاب وحضور واستحضار، لوحة مترامية الأرجاء يخيَّل إليك أنّك أمام التفات سياقي ـ إن صحّ التعبير ـ من الغياب إلى الخطاب. إنّها لوحة واسعة تغطّي العالم الإسلامي الرحب. هنا تنادي الشاعرة الحجيج الوافدين من شتّى أرجاء الأراضي الإسلامية من أقاصي الشرق في الفلبين إلى أقاصي المغرب الإسلامي في إفريقيا، تناديهم أربع عشرة مرّة من بداية اللوحة إلى نهايتها. فإنّها نداءات قارعة طنّانة شجيّة تقطر همّا وأسى، وتنذر بالواقع المرير للأمّة الرازحة تحت نير الذلّ والاستعباد؛ لكن أجوبة النداء تحيي الأمل في قلوب الأمّة التي ترسف في قيود الذلّ والعبودية، وتذوق مرارات متتالية لا نهاية لها. يدخل الحجيج هذه الأرض المقدّسة ويؤدّون مناسكهم بقلوب ملؤها الألم والحزن؛ لكنّهم يفيضون منها بوجوه نضرة شابّة متهلّلة سعادة وأملًا. وهذه هي كيمياء الأدب والشعر الذي يحوّل الواقع الكئيب البغيض إلى واقع سعيد واعد.
الثلاثية المذكورة في اللوحة الأولى يمتدّ حضورها بتغيّر بسيط في العناصر، حيث تستخدم الشاعرة العنصر النسوي من الفتيات إلى العجائز، وتجمع بين مشاهد الطبيعة المنتشرة على خارطة العالم الإسلامي وأرض الحجاز، كما تتطرّق في هذه اللوحة إلى وصف اللّٰه سبحانه وتعالى.
واللافت أنّ الشاعرة تفنّنت في النداء، إذ اختارت الأنثى فتاة وعجوزا، لما في الأنثى من دلالة إيحائية ثرّة بالبراءة والطهر والوداعة، كما تعمّدت اختيار نماذجها النسوية المهمَّشة المهضومة من أرجاء الوطن الإسلامي المثخَّن بالجراح من أقاصي الشرق الإسلامي في الفلبين إلى تونس في أقاصي المغرب. ولعلّها أرادت باختزال هذه المسافة الإشعار بأنّ الأمّة الإسلامية جسد واحد ينزف دما.
أمّا الخطاب المتمثّل في أسلوبي النداء والاستفهام، فيختزن طاقة وجدانية هائلة، تزيل الحواجز بين الشاعرة والمتلقّي، وتقنعه بحميميّة تربطهما ببعض، كما أنّها توعز للمتلقّي بأنّ الشاعرة على وعي تام بمعاناته؛ ناهيك عن أنّ الأسلوبين يجعلان الفكرة حيّة وثيقة الصلة بالعصر، عصيّة على الاندثار.
هذه النداءات والاستفهامات المتسلسلة حركة بيانيّة تعبّر عن واقع نفسيّ أو فكريّ لنزوعها منزعا تأمّليّا تساؤليّا، لا تدع المتلقّي یخلد إلی اليأس والخمول والسكون. فالتساؤلات تنثال عليه مفيدةً الاستنهاض، والتوعية بجلال الموقف الزمكاني. يمثّل أسلوب الخطاب محاولة انتشال لضحايا الواقع المرير، من تحت أنقاض العصر، وينيط بهم دورا مركزيا في بؤرة الصورة.
وفي ثنايا التساؤلات والنداءات، تعقد الشاعرة حوارا مع الحجيج لئلا يروحوا فريسة اليأس والضياع، بل تتدارك الموقف باستحضار مشهد مفعم بومضات الرجاء والتفاؤل في جوابها على التساؤلات والنداءات: «رُبَّ دَمْعَه / صَيَّرَتْها لَمْسَةُ اللّٰه نُجُوما وَأَشِعَّه / إِنَّ رَبِّي قَمَرُ المُسْتَضْعَفِينْ / وَانْبِلاجُ العَدْلِ فِي لَيْلِ الحَزِيْنْ / لَيْسَ يَنْسَى اللّٰه شَوْكًا وَجِراحا / فِي خُصُورِ البَشَرِيَّه / لَيْسَ يَنْسَى يا صَبِيَّه».
وخلاصة القول، أنّ اللوحة الثانية تصوير شعوري لما آلت إليه حال الأمّة الإسلامية؛ فإنّها لوحة قاتمة الأرجاء لا تبشّر بخير، إلّا أنّ الشاعرة تطلع من زاوية مبشِّرةً بقرب الصبح المسفر، وباستحالة الحصى القاسية تسابيح شذية، وحلوى، وصيرورة الأوراق الصفر أزهارا فتية، وعودة العجوز من الحجّ فتاة في مقتبل عمرها. وبهذا تمهّد الشاعرة لاستقبال المتلقّي بلوحتها الثالثة.
3ـ3. اللوحة الثالثة: التجاوب مع الأجواء الروحية واستعادة الذات
في هذه اللوحة، تقترب الشاعرة والحجاج من نهاية مطافهم، حاملة زادا من المعرفة والوعي:
وَأنا أَجْمَعُ مِنْ مُزْدَلِفَه / كِيْسَ أَحْجارٍ، وَأَحْجارِي تُصَلِّي فِي يَدِي / ذَاهِلَةٌ مُنْخَطِفَه / سَقَطَتْ عَذْراءَ مِنْ أَرْضِ القَمَرْ / إِنَّها لَحْنٌ وَشَمْسٌ لا صَخَرْ / إِنَّها أَوْرادُنا المُقْتَطَفَه / مِنْ حُقُولِ اللّٰه، إِنَّ الصَّخْرَ حَبَّاتُ مَطَرْ / وَانْعِكاساتُ صُوَرْ / رَشَّها اللّٰه حِزامًا لِلصُّخُورِ الخاشِعاتِ الـمُرهَفَه / ضَحِكَتْ مُزْدَلِفَه / وَرُؤاها أَوْمَضَتْ لُؤْلُؤَةً فِي صَدَفَه / وَحَمَلْنا كَنْزَنا الغالِي صُخُورًا وَأَهِلَّه / جَدَّدَتْ عُمْرَ السِّنِينَ المُضْمَحِلَّه / يا صُخُورًا طَعْمُها طَعْمُ الكُرُومِ المُتْرَفَه / تَرْجُمُ الشَّيْطانَ، شَيْطانَ المَذَلَّه / تَقْذِفُ الإِلْحادَ / وَالفَقْر / وَصِهْيُونَ، وَتَرْمِي / كُلَّ تَشْرِيدٍ وَظُلْم / كُلَّ أَكْداسِ الخُرافاتِ المُمِلَّه / كُلَّ زَيْفٍ، كُلَّ تَعْرِيْشَةَ وَهْم / تَقْذِفُ الغَفْلَةَ وَاليَأْسَ، وَتُذْكِي الجُرْحَ شُعْلَه / وَتُحِيْلُ المَوْتَ قُبْلَه / وَصُخُورِي مِنْ رُبَى مُزْدَلِفَه / باقَةٌ خاشِعَةٌ فِي يَدِ طِفْلَه / أَوْرَقَتْ حَبّاتِ ضَوْءٍ بَضَّةٍ مُنْقَصِفَه / مِنْ دَوالِي أَلْفِ نَجْمٍ / لَمَعَتْ فِي جَبْهَةِ اللَّيْلِ الأَصَمّ / وَصُخُورِي تَرْجُمُ الباغِي، وَتُعْطِي لِلْجِياعِ الأَرْغِفَه / وَصُخُورِي مَعْرِفَه / تَسْكُبُ الفِكْرَ قَرائِينَ / وَمُوسِيقَى / وَأُرْجُوحَةَ حُلْمٍ / أَطْلَعَتْهُ فِي الدُّجَى لُؤْلُؤَتَي مُزْدَلِفَه / ثُمَّ غادَرْنا .. وَفَوْقَ السَّهْلِ لَيْلٌ فارِشٌ مُنْتَصَفَه / وَحَمَلْنا صَخْرَنا العَذْبَ نُجُومًا، وَابْتِهالاتِ شَفَه / وَادِّكاراتِ نَهارٍ / وَخِيامٍ / وَرَؤًى فِي عَرَفَه / وَتَرَكْنا قَمَرًا يَنْثُرُ مَرْجانًا عَلَى مُزْدَلِفَه (الملائكة، 2002م، ص 506 ـ 508).
وفي خضم الألم والأسى المطبقين، تتجاوب الشاعرة مع طلائع الأمل المشرق، فتتراءى للجميع حاملة زادها الروحي والمعرفي التي تستعين به لمواصلة حياة واعية عزيزة كريمة ولاستعادة هويّتها السليبة. أحجار الشاعرة سماوية مفعمة بالحياة والدفء، إنّها الأوراد السماوية الإلهية التي أنعم اللّٰه بها على الحجيج الخاشعين. وحينئذ تسري الحياة في أوصال الأرض والطبيعة الجامدة الصامتة وتضحك متجاوبة مع الشاعرة تومض وتشرق؛ وهنا تصوّر الشاعرة الحجيج المتفرقين في مطلع القصيدة، كيانًا واعيا واحدا استيقظوا من غفلتهم وتزوّدوا خير الزاد من تلك الصخور الغالية ليجدّدوا بها سني العمر الضائعة. هذه الصخور تتخطّى ظاهر النصب الرمزية إلى باطنها؛ ولذلك ترجم الفقر والبؤس والمسكنة والحرمان والتخلّف والخرافات والأوهام بجميع أشكالها، وتصوّر الموت المقيت قُبلة في سبيل العقيدة والقيم العليا، وتهدي إلى جياع البطون الأرغفة، وإلى جياع الفكر المعرفة، وها هم الحجيج يعودون من ضيافة الرحمن بأيدٍ مملوءة وقلوب آمنة مؤمنة واعية.
تجعل نازك الملائكة تصوير الحجّ منطلقا لتحقيق مذهبها الفنّي بدايةً في عنوان القمر على مزدلفة؛ كونه يتّسم بجمال شكلي، ووقع نفسي وعاطفي. قيّدت الشاعرة القمر بكونه على أرض مزدلفة فجاء تقييدها أقدر على التعبير عن الجمال، وعلى نقل الوقع في النفس؛ إذ إنّ القمر بسموّه في علياء السماء ونوره الفضّي يحيل القارئ إلى دلالات الجمال والسموّ، والتفرّد؛ ناهيك عن دلالات الزمان (الليل) والمكان (مزدلفة) الجمالية.
تتوفّر قصيدة نازك على أدوات وتقنيات فنية متنوعة من السرد، والحوار، والتصوير، والإيقاع، والموروث الثقافي. تمكّنت الشاعرة من أن تُفرِغ أفكارها ورؤاها عن الحجّ الأكبر، في قالب تعبيري فنّي يستمدّ جماله من ممكنات اللغة، ويمتاز بما فيه من الصور بمفردات متناغمة مع جلال الموقف وجماله.
تضمّ القصيدة 102 جملة، 70 فعلية، و32 اسمية، كما أنّها تنطوي على 22 جملة إنشائية، تتوزّع على 17 جملة ندائية، و5 جمل استفهامية. وأمّا البقية فخبرية. وزّعت الشاعرة الجمل ضمن لوحاتها الثلاث توزيعا واعيا يخدم مسار القصيدة الساخطة على الواقع المؤلم، يوضّحه الجدول الآتي:
اللوحة |
عدد الجمل |
المجموع[10] |
|
الفعلية |
الاسمية |
||
الأولى |
10 |
5 |
15 |
الثانية |
36 |
16 |
52 |
الثالثة |
10 |
10 |
20 |
من جانب آخر، تتوزّع الجمل بين خبرية وإنشائية؛ الأغلبية للجمل الخبرية (80 جملة)؛ وأمّا الجمل الإنشائية، فلا تعدو 22 جملة، 17منها بأسلوب النداء، و5 منها بأسلوب الاستفهام.
استعانت الشاعرة بالجمل الخبرية لترسم الوضع الإنساني القاتم، وحزنها العميق، وتصبّ سوط إنذارها الرهيب على وعي المتلقّي، بحدوث مأساة في رقعة مترامية الأطراف من الأرض، في زمن مجهول البداية وضبابي النهاية. ولكلّ خبر هويّته المستقلّة ضمن متوالية من الأخبار تؤكّد حجم المأساة، وعمقها، وشدّتها، كقولها تنادي: «أَنْتِ فِي العَتْمَةِ بَجْعَه / سَبَحَتْ فِي حِضْنِ تُرْعَه / دَمْعُها يَقْطُر، إذْ تَذْكُرُ جُرْحًا غارَ فِي أَلْفِ جَبِيْن / فِي بِلاد الفِلِبِينْ».
هذه الجمل الخبرية تارة تحمل خبرا للقارئ، كقولها: «يَنْحَنُونْ / يَجْمَعُونَ الصَّدَفَ الأَبْيَضَ فِي شَطِّ السُّكُونْ»، وتارة أخرى تفيد حُكمًا، كقولها: «رُبَّ دَمْعَه / صَيَّرَتْها لَمْسَةُ اللّٰه نُجُومًا وَأَشِعَّه»، تارة ثالثة تحمل طابعا وصفيا، كقولها: «إِنَّ رَبِّي قَمَرُ المُسْتَضْعَفِينْ / وَانْبِلاجُ العَدْلِ فِي لَيْلِ الحَزِيْنْ»، ورابعة تقدّم نتيجة كقولها: «لَيْسَ يَنْسَى اللّٰه شَوْكًا وَجِراحًا / فِي خُصُورِ البَشَرِيَّه».
وفي ضوء أسلوب الاستفهام المقترن بالنداء (14 نداء)، قوّضت الشاعرة مسار القصيدة إلى تعبير يتّسم بالغرابة، كقولها: «يا صَبِيَّه / يا اخْتِلاجاتِ شِفاهٍ شَفَقِيَّه / ما الَّذِي تَلْتَقِطِيْنْ؟ / وَلِماذا عَبْرَ آمادِ الدُّجَى تَنْتَحِبِيْنْ؟»، أو قولها: «ما الَّذِي تَحْتَ الدَّياجِي تَلْتَقِطِينْ؟ / وَلِمَنْ تَبْتَسِمِينْ؟» علامات الاستفهام هذه، تستثير المتلقّي لاستكشاف هويّة الإنسان الجديدة، وآفاق جديدة للحياة، وإلقاء نظرة متأمّلة في موقف الإنسان المتخبّط في فوضى العصر. والنداءات المتكرّرة تلائم مسار القصيدة وترابطها الشكلي؛ لأنّ الشاعرة تنوي الإقلاع من الواقع التعيس إلى الوضع المنشود، فلا بدّ من إيقاظ الحجيج. لعلّه يمكن القول بأنّ الشاعرة وُلِدت من جديد، ووطّنت نفسها على العبث بالعالم القائم هذا، وخلق عالم آخر جديد يخضع لمعادلات إنسانية أخلاقية سامية.
إلى جانب ذلك كلّه، أبدعت الشاعرة في توجيه الخطاب إلى أجزاء الجسم، كأنّها مصوّرة تركّز عدستها على تلك الأجزاء؛ خدود وشفاه وعيون من خدود، وبالغت في تصويرها، فهي لم تصوّر الشفاه؛ بل لم يعزب عنها حتّى اختلاجاتها، سعيا منها إلى الخوض في عمق المعاناة. يعمد هذا الخطاب التجزيئي أو التفصيلي إلى تصوير أمرين: أوّلًا سريان العبودية اللّٰه تعالى، كقولها: «يا شِفاها تَمْتَمَتْ بِالتَّلْبِيَه / يا يَدًا تَجْمَعُ فِي الكِيْسِ حِجاراتٍ وَتَبْكِي وَتُلَبِّي / وَاسْمُ رَبِّي / خافِتٌ فِي شَفَتَيْها كَخُفُوتِ التَّضْحِيَه»، وثانيًا استفحال الداء في جسد الأمّة، الداء العضال الذي يكاد يقضي عليها، فوجوه الحجيج تذكّر الناظرين بمشاهد الموت والاحتضار، والشمس التي تؤذن بالاغتراب في لحظاتها الأخيرة: «يا طُقُوسَ المَوْتِ، يا إِغْماءَةَ المُحْتَضِرِينْ / يا اصْفِرارَ الشَّمْسِ فِي الغَرْبِ، وَيا وَجْهَ الضَّحِيَّه / يا ذُبُولَ الوَرْدِ وَالعُنّابِ، يا جُرْحَ السِّنِينْ».
مما يلفت النظر في أفعال القصيدة، أنّ الشاعرة كانت متعمّدة في استخداماتها للأفعال من حيثيات مختلفة سواء من حيث بناؤها، أو حقولها الدلالية، أوترتيب ورودها وتدرّجها الموافق لمناسك الحجّ وروحها. فمن جهة يلاحظ القارئ كثرة الأفعال المضارعة التي تُشعِر بتجدّد الحدث وتعاقبه المستمرّ واستحضار الصورة كأنّ القارئ أمام مشهد حيّ، ومن ذلك قولها: «لَيْسَ يَنْسَى اللّٰه شَوْكًا وَجِراحًا / فِي خُصُورِ البَشَرِيَّه لَيْسَ يَنْسَى يا صَبِيَّه»، وقولها: «تَرْجُمُ الشَّيْطانَ، شَيْطانَ المَذَلَّه / تَقْذِفُ الإِلْحادَ / وَالفَقْر / وَصِهْيُونَ، وَتَرْمِي / كُلَّ تَشْرِيدٍ وَظُلْم / كُلَّ أَكْداسِ الخُرافاتِ المُمِلَّه / كُلَّ زَيْفٍ، كُلَّ تَعْرِيْشَةَ وَهْم / تَقْذِفُ الغَفْلَةَ وَاليَأْسَ، وَتُذْكِي الجُرْحَ شُعْلَه / وَتُحِيْلُ المَوْتَ قُبْلَه».
كذلك استعانت الشاعرة بالأفعال الماضية التي تعبّر عن عمق المعاناة وقدمها، ومضاعفة وقعها في النفس: «أَنْتِ فِي العَتْمَةِ بَجْعَه / سَبَحَتْ فِي حِضْنِ تُرْعَه / دَمْعُها يَقْطُر، إذْ تَذْكُرُ جُرْحًا غارَ فِي أَلْفِ جَبِيْن / فِي بِلاد الفِلِبِينْ». فعلى حسب المصادر البلاغية، فإنّ المسند إذا كان فعلًا ماضيا يؤكّد وقوع الحدث (التفتازاني، 2013م، ص 313)، مما يعني أنّ التعبير الماضوي يؤكّد عمق المعاناة وطولها.
ولا تتوقّف دلالات الأفعال عند هذا، حيث بيّنت إحصائيّة في الحقول الدلالية لأفعال القصيدة (58 فعلًا) الآفاق الروحية التي جابتها الشاعرة في هذه الرحلة المعرفية. والجدير بالذكر أنّ القارئ يجد موافقة تامّة بين دلالات الأفعال وروح الحجّ، وتدور الأفعال في فلك المعاني التالية: أ. الصيرورة؛ ب. التفاؤل والإيجابية والعطاء؛ ج. الرفض والنهوض.
ـ الصيرورة: تؤدّي قرابة 30% من الأفعال دلالات الصيرورة والتحوّل من سيّيء إلی حسن، ومن حسن إلی أحسن، نحو: صار، صيّرتها، ردّها. في قولها: «رُبَّ دَمْعَه / صَيَّرَتْها لَمْسَةُ اللّٰه نُجُوما وَأَشِعَّه»، وقولها: «صارَتِ الصَّخْرَةُ فِي كَفِّكِ حَلْوًى وَابْتِسامَه / لِيَتِيْمَيْنِ مِنَ القُدْسِ السَّبِيَّه / صارَتِ الأَحْجارُ ظِلًّا وَغَمامَة / أَمْطَرِتْ أَنْقاضَ «بِيْسَانَ» و«رامَه» / وَتَبَسَّمْتِ وَصارَ الوَرَقُ الأَصْفَرُ أَزْهارًا فَتِيَّه / يا عَجُوزًا رَدَّها الحَجُّ صَبِيَّه»، وقولها: «وَتُحِيْلُ المَوْتَ قُبْلَه».
في هذه الصيرورة، أبدعت الشاعرة، وخلقت عالما آخر، حيث استحالت الدمعة الساقطة نجوما وأشعّة في نقلة تصاعدية، والصخرة تخلّت عن قساوتها لتستحيل حلوى وابتسامة؛ أمّا الأحجار الصلدة فاستحالت ظلًّا وغمامة لتهب الأرض الحياة، كذلك الورق الأصفر اليابس عادت إليه الحياة ليتفتّح عنه الأزهار، عادت العجوز صبية في عنفوان حياتها. وأخيرًا، صورة الموت الكريه عادت قبلة جميلة تتوق إليها النفوس وتستعذبها. فالأفعال تنبض بحركة تحوّل وصيرورة إيجابية. فمن السقوط إلى التصاعد، ومن القساوة إلى النعومة، ومن اليبوسة إلى العطاء، ومن الذبول إلى الغضارة، ومن العجز إلى القوّة والحيوية. هذا هو الحجّ الأصيل والمنشود.
ـ التفاؤل والإيجابية والعطاء: يبعث أكثر من 20% من الأفعال روح التفاؤل والإيجابية في القارئ، وتعيد إليه الأمل والرجاء منها: ضحكت، أومضت، لمعت، وأورقت. في قولها: «وَصُخُورِي مِنْ رُبَى مُزْدَلِفَه / باقَةٌ خاشِعَةٌ فِي يَدِ طِفْلَه / أَوْرَقَتْ حَبّاتِ ضَوْءٍ بَضَّةٍ مُنْقَصِفَه / مِنْ دَوالِي أَلْفِ نَجْمٍ / لَمَعَتْ فِي جَبْهَةِ اللَّيْلِ الأَصَمّ». تعيش البشرية البريئة المعبَّر عنها بالطفلة، في ليل أصمّ لا فجر من ورائه؛ لكنّ الشاعرة تبشّرها بأنّ الظلام سينجلي حيث تحمل من الحجّ صخورا تورق النور والأمل. وكما نرى أبدعت في تصوير الصخور وهي أورقت جبّات ضوء.
ـ الرفض والنهوض: وما يقرب من 30% من الأفعال تثير الهمم في القارئ، وتوقظه من سباته، وتخز في قرارة نفسه، وتدفعه إلی الأمام، وتدعوه إلی الطغيان علی الوضع الراهن؛ ومن ذلك يمكن الإشارة إلی «ترجم»، و«تقذف» و...، حيث تقول: «تَرْجُمُ الشَّيْطانَ، شَيْطانَ المَذَلَّه / تَقْذِفُ الإِلْحادَ / وَالفَقْر / وَصِهْيُونَ، وَتَرْمِي / كُلَّ تَشْرِيدٍ وَظُلْم / كُلَّ أَكْداسِ الخُرافاتِ المُمِلَّه / كُلَّ زَيْفٍ، كُلَّ تَعْرِيْشَةَ وَهْم / تَقْذِفُ الغَفْلَةَ وَاليَأْسَ، وَتُذْكِي الجُرْحَ شُعْلَه». ربطت الشاعرة التاريخ العريق للحجّ من زمن الأنبياء بعصرها الراهن وواقعها المأساوي من خلال إعادة ربط الأفعال بقضايا اليوم من المذلّة، والإلحاد، والفقر، والتشريد، والظلم، والخرافات و...، حينئذ يستعيد الحجيج وعيهم فيشعرون بجروحهم التي تشتعل؛ ومن ثمّ يثورون على واقعهم المقيت البئيس.
ـ أداء مناسك الحجّ: هناك أفعال استدعتها مناسك الحجّ، وهي تشكل النسبة المتبقّية من الأفعال أي 20% منها، نحو: "تجمع" و"تلبّي" و"تمتمت" و....
من جهة أخرى، إذا تتبّع القارئ ترتيب ورود الأفعال في القصيدة، أدرك أنّ توزيعها علی مقاطع القصيدة مقصود لذاتها؛ بحيث تتناغم الأفعال ومناسك الحجّ والمسار الروحي الذي يعيشه الحجيج منذ بداية رحلتهم إلی نهايتها الزاخرة بالمعرفة؛ إذ تبتدئ الرحلة بالجمع الغائب "يجمعون، ينحنون"، متنقّلة إلی الخطاب "تجمع، وتلتقطين، وتبتسمين"، وإلی المتكلّم وحده "أجمع"، ثمّ تنتهي إلی المتكلّم مع الغير "غادرنا، وتركنا". الحاجّ يبدأ رحلته ملتحقًا بالجموع البشريّة، ثمّ يحقّق ذاته بفضل التواصل مع الجميع، وأخيرا ينصهر الجميع (الـ"هُم" والـ"أنا" والـ"أنت") في حشود بشريّة متّحدة (الـ"نحن").
يستعين الشكل بغرابة اللغة على إخراج المعنى إخراجا يستوقف القارئ؛ فاللغة الغريبة تعكس الشعور بالقطيعة الكبيرة بين الواقع المرير والمأمول، وتعبّر عن البون الشاسع بينهما؛ ولا عجب أنّ تبحث ذات الشاعرة عن ملاذ للخلاص من واقعٍ خائب.
وبناء على ما مرّ، فإنّ القصيدة لوحة كبرى ترصد حركة في الحجيج ومناسك الحج. الحركة تأتي في إطار مناسك الحج وضمن رحلة من الواقع إلى المرتجى؛ إذن، يمكن القول إنّ الصورة الكبرى في القصيدة تجسّد التجربة النفسية التي خاضتها الشاعرة ومواقفها.
تتّصف القصيدة بالخيال المستمدّ من التغريب، لتظهر الصورة غير مألوفة: «وَيُصَلِّي فَوْقَ وادِيهِمْ قَمَرْ / ضَوْؤُهُ أَشْرِعَةٌ عَبْرَ نَهَرْ / وَجْهُهُ رِحْلَةُ صُوفِيٍّ وَأَسْرارُ عُيُونْ». فالقمر هنا يصلّي وسطحه الفضيّ المنير يحاكي رحلة صوفي وأسرار عيون، أو تصف الشاعرة الصخور البيض قائلة: «وَالصُّخُورُ البِيضُ فِي مُزْدَلِفَه / سُنْبُلاتٌ وَمَرايا / شَمْعَداناتٌ وَضِحْكاتُ صَبايا / وَدُمُوعٌ عَذْبَةٌ مُنْذَرِفَه / مِنْ جُفُونِ القَمَرِ المَكْسُورِ آلافَ الشَّظايا». رسمت الشاعرة بريشتها المبدعة الصخور، إلّا أنّها لم تعد تلك الصخور القاسية الصامتة، بل إنّها تماهت مع الأجواء الروحية في الوادي، فباتت سنبلاتٍ تهب الحياة، ومرايا ناصعةً تذكّر الإنسان بالصفاء والصدق، وشمعداناتٍ تنير الزوايا والأركان، وضحكاتِ صبايا ببراءتهنّ وطُهْرهن. فإنّها دموع استعذبتها الشاعرة.
لقد جمعت الشاعرة بين متناقضات هي الصخور وسنبلات ومرايا وشمعدانات وضحكات؛ وما أبعد الصخور من هذه الظواهر، حتّى أنّ الشاعرة تتخيّل الصخور دموعا منهمرة من جفون القمر! كأنّها تنوي بهذا التغريب الإيحاء بما تنطوي عليه مناسك الحجّ من دلالات عميقة، فشكّلتِ القصيدةَ بنوع من الصور الغريبة المتباعدة مردّها إحساس الشاعرة بعظمة الموقف ورمزية الشعائر والطقوس الدينية. لقد آثرت نازك التعبير الفني في القصيدة هذه، لكي تتمكّن بالصور الفنيّة من تجسيد الواقع المأساوي للأمّة الإسلامية؛ ولم تسرف في التغريب، لئلّا تغدو القصيدة عصية على الفهم.
يقوم البناء التصويري في القصيدة علی مرتكزات، أهمّها الاستعارة. أبدت الشاعرة براعتها في توظيف الاستعارة وتشخيص المحسوسات وتجسيد المجرّدات، كما نلاحظ في اللوحة الأولى، حيث تعود الشاعرة إلى القمر الذي تكسّر إلى آلاف الشظايا الباسمة، وشبّهت القمر بعروس طلعت من صدفة لتملأ الكون فرحة ونورًا وتحية. ترمز العروس إلى الطهر والنقاء والبراءة، كما ترمز للنماء والخصوبة. فالعروس تزفّ إلى الحجيج البشرى مسبّحة نقيّة، وقد بلغت ذروة المعرفة والروحية؛ إذ قبّلت أسماء اللّٰه الحسنى، واستعارت الشاعرة لها شفاه السيّدة مريم، لتصلّي بين يدي ربّها.
ومن الطريف أنّ الشاعرة رسمت في اللوحة الأولى القمر مرّتين، مرّة في هيئة صوفي يصلّي، ومرّة أخرى في هيئة عروس بهيّة الطلعة، قدسيّة الروح. ومن إبداعاتها أنّها استعارت تقبيل أسماء اللّٰه الحسنى لترديدها؛ وبذلك رفعت الشاعرة التسبيح والذكر الإلهي من طقس ديني أحادي الجانب إلى التقبيل في ملّة الحبّ، وجسّدت الوصول إلى رحاب اللّٰه ومبادلته الحبّ؛ مما يعني أنّه أدركت حقيقة تلك الأسماء الحسنى.
وفي اللوحة الثالثة، تقدّم الشاعرة صورة تشخيصية للطبيعة الجامدة، فتُخرِجها إلى طبيعة حيّة متحرّكة فاعلة شاعرة تتدفّق شعورًا وحيوية. فإنّها الصخور التي ترجم الشيطان، وتقذف الإلحاد والفقر، وترمي صهيون والتشريد والوهم والظلم؛ وبذلك تكشف جانبا من دلالات طقوس الحجّ التي من شأنها معالجة آلام الأمة الإسلامية. يدلّ امتداد الصورة التشخيصية في اللوحات الثلاث على سريان الوعي في أوصال الكون، وأنّ الإنسان هو الكائن الذي قد يتخلّف عن هذا الركب الواعي.
ومن الصور الفنية للقصيدة الصور التراسلية، «تعبير يدلّ على المُدْرَك الحسّي أو يصف المدرك الحسيّ الخاصّ بحاسة معيّنة بلغة حاسةٍ أخرى، مثل إدراك الصوت أو وصفه بكونه مخمليًا أو دافئًا أو ثقيلًا أو حلوًا، وكأن يوصَف دويّ النفير بأنه قرمزيّ» (وهبة والمهندس، 1984م، ص 148)، كما تقول: «صارَ فِي كِيْسِكِ عِطْرٌ مِنْ بَقايا الخُطُواتِ النَّبَوِيَّه». فقد جمعت بين مدركات البصر (بقايا الخطوات النبويّة) ومدركات الشمّ (عطر). تجعل بقايا الخطوات النبوية وهي من المرئيات، عطرًا يفوح. هذه التقنية التغريبية تجعل المألوف غير مألوف، وتساعد علی استحضار مشهد خطى النبيّ الأكرم ونقل الأثر النفسيّ في الصورة وتعميق الانفعال النفسي لدى القارئ؛ بحيث لا يرى بقايا الخطوات النبوية فحسب بل يشمّها، فتتأجّج عواطفه، ويتفاعل مع هذا المشهد الروحي؛ إذ يجد نفسه يحذو حذو الرسول الأعظم.
من أبرز الظواهر في القصيدة هيام نازك بالطبيعة: القمر، والصدف، والنجم، والشمس، والقمر، والمطر، والبجعة، والكروم المترفة، ورُبی، ولؤلؤة، والورد، والعنّاب، وأزهار. والطبيعة هنا متغيّرة تتلوّن بألوان شتّی، لا تكاد تجدها علی حالة ثابتة، فتارة تتبدّی بألوان معتمة قاتمة وأخری بألوان فاتحة. تمثّل الألوان في هذه القصيدة دورًا دلاليا وجماليا بارزا، ولها وقْع نفسي يمتدّ من النفس إلى الفكر والوعي؛ لأنّها تثير حواسّ المتلقّي، وتعيد إلى ذاكرته تجاربه القابعة واللاوعي: «إنّ ألوان الأشياء وأشكالها هي المظاهر الحسية التي تُحدِث توترا في الأعصاب وحركة في المشاعر، إنّها مثيرات حسّية يتفاوت تأثيرها في الناس، لكن المعروف أنّ الشاعر كالطفل يحبّ هذه الألوان والأشكال، ويحبّ اللعب بها، غير أنّه ليس لمجرّد اللعب، وإنّما هو لعب يدفع إلى استكشاف الصورة أوّلًا، ثمّ القارئ، أو المتلقّي ثانيًا» (إسماعيل، 1967م، ص 129 ـ 130).
وفي السياق نفسه، استعانت الشاعرة في اللوحة الثانية بالمؤثّرات الحسّية كاللون، لتبلغ الصورة الفنية ذروة تأثيرها. تتنوّع الألوان في القصيدة؛ فهناك الأبيض، والأسود والأحمر، والأخضر؛ والأصفر كقولها: "شفاه شفقيه، وجراحًا قرمزيه، واصفرار الشمس، والورق الأصفر". وهناك ألفاظ موحية تحيل القارئ إلى الألوان بتعابير غير مباشرة: "عَرُوسٍ، وَاللَّيْلَة، والعَتْمَةِ، وخُدُودًا أَسْيَوِيَّه مِن مَجاهِيلِ الفِلِبِين، وشُرْفَةً ضَوْئِيّةً، وآمادِ الدُّجَى، ونُجُوما وأَشِعَّه، وقَمَرُ المُسْتَضْعَفِينْ، وَانْبِلاجُ العَدْلِ، ولَيْلِ الحَزِين، وكَأسِ لَيالِيهَا، وطُقُوسَ المَوْتِ، وذُبُولَ الوَرْدِ وَالعُنّابِ، وجُرْحَ السِّنِينْ، والدَّياجِي، وظِلًّا وغَمامَه، وأَزْهارًا فَتِيَّه". هذه المفردات والتراكيب المرتبطة بالألوان ليست منعزلة عن الواقع المعيش، بل تصبّ في خدمة اللوحة الكبرى التي تصوّرها القصيدة. تجمع الشاعرة باستخدام هذه الألوان القاتمة والفاتحة بين المتباعدات. فثمّة ألوان تنذر بالموت والضعف والهزال وغلبتها لا تدلّ على تشاؤم الشاعرة أو يأسها بل تجسّد واقع أمّتها المأساوية كما نلاحظ في اللوحة الثانية. وهناك ألوان فاتحة توحي بالأمل وتبعث الرجاء والحيوية والانبعاث والتفاؤل.
وكما استعانت نازك بالألوان في التصوير الفني، استعانت بالأضواء لتجسيد أفكارها ورؤاها. إنّ اللغة الشعرية «لغة تلعب فيها ظلال الدلالات دورا يفوق الدور الذي تلعبه الدلالات المحددة ذاتها، وعلى هذا الأساس يفرَّق بين لغة العلم ولغة الشعر» (اليافي، 1983م، ص 189). فقد استخدمت الأضواء في خلق الصور الفنية: «وَصُخُورِي مِنْ رُبَى مُزْدَلِفَه / باقَةٌ خاشِعَةٌ فِي يَدِ طِفْلَه / أَوْرَقَتْ حَبّاتِ ضَوْءٍ بَضَّةٍ مُنْقَصِفَه / مِنْ دَوالِي أَلْفِ نَجْمٍ / لَمَعَتْ فِي جَبْهَةِ اللَّيْلِ الأَصَمّ». تبدو الصخور في هذا المشهد الغريب بهيئة باقة أزهار تورق حبّات ضوء ساطعة تبدّد ظلمة الليل الحالك؛ لأنّه يهمّهما انبعاث أبناء الأمة الإسلامية، وإعادة الأمل إلى قلوبهم الكئيبة.
والليل هو الآخر يمثّل دورا مركزيا في القصيدة؛ إذ عاشت الشاعرة تجربتها الروحية المعرفية في الليل الذي يشهده القارئ منذ مطلع القصيدة. تنسجم صورة الليل هنا مع أفكار الشاعرة وخيالها. يوحي الليل في أرجاء القصيدة بما يعيشه الإنسان من الجهل والفقر والظلم، والأوهام والخرافات (انعدام الرؤية السليمة المبشّرة)؛ وبهذا يجعل الليل الإنسان منعزلًا عن الحقيقة، منطويًا على نفسه، بعيدًا عما يجري من حوله؛ ولذلك نرى في اللوحة الثالثة، الشاعرة مع جموع الحجيج يخرجون من ظلمات الليل بعد أن استعادوا هويّتهم، دون أن ينتظروا شروق الشمس؛ الأمر الذي يضمّ دلالة كامنة تدفع القارئ إلى الحركة والنهوض.
كذلك، استدعت نازك الملائكة الرمز الديني لما فيه من غموض. استحضرت الشاعرة مريم المجدلية، لتهيّئ إلى انزياح دلالي، كونها رمزًا من الديانة المسيحية. هذه السيّدة التي يكتنف شخصيتها كثير من الغموض والإبهام، وهي ترمز بشكل عام إلى التوبة والابتهال إلى اللّٰه والمحببّة والقدسية والطهارة كما يبدو من أجواء القصيدة.
الخاتمة
توصلت المقالة إلى ما يلي:
ـ اختزلت الشاعرة في القصيدة رحلة الحجّ ودلالاتها المعرفية في لوحة كبرى تتكوّن من لوحات ثلاثة جزئية تتناغم مع المسار الروحي الذي يعيشه الحاج في مناسك الحجّ.
ـ اعتمدت الشاعرة آلية التغريب في تصوير فكرتها العصرية الحية عن الحجّ ووقائعه، وهي تنوي الإيحاء بأنّ الحجّ ليس مجرّد مناسك شكلية، بل إنّ الغرض من تشريع الحجّ هو استعادة الإنسان هويّتها الإلهية السليبة.
ـ أضفت الشاعرة دلالات جديدة ورمزية على مفردات القصيدة التي تتميّز بتنوّعها.
ـ استحضرت الشاعرة الأفعال في قصيدتها لتحمل العبء الأكبر في نقل فكرتها الجديدة عن الحجّ؛ إذ الفعل يفيد الحركية والحيوية والصيرورة.
ـ استخدام الأفعال في القصيدة يوافق السرّ الكامن في مناسك الحجّ؛ بتعبير أوضح، تخضع الأفعال لما يقوم به الحجيج من الرحلة الروحية والوعي الفكري والتطوّر المعرفي خلال موسم الحجّ، فمن الغياب "هم" إلى الخطاب "أنتِ" ومنه إلى التكلّم مع الغير "نحن". فيجد القاري أنّ الحجيج يبدأون رحلتهم ملتحقين بالجموع البشريّة، ثمّ يحقّق كل واحد منهم ذاته بفضل التواصل مع الجميع، وأخيرًا ينصهر الجميع (الـ"هُم" والـ"أنا" والـ"أنت") في حشود بشرية متّحدة الرؤى، ومتّحدة الغاية والهموم (الـ"نحن").
ـ الصورة الفنية في القصيدة ترتكز على الاستعارة وتراسل الحواسّ والرمز، واستعانت الشاعرة بهذه التقنيات التصويرية الحيّة لتجسيد واقع الأمة الإسلامية والحقيقة المغيّبة للحجّ.
[1]. Formalism
[2] .Jakobson
[3]. Automatization
[4]. Defamiliarization
[5]. Shklovsky
[6]. Tomashevsky
[7]. طبعت القصيدة في الجزء الثاني من الأعمال الكاملة للشاعرة، في ديوانها المسمّى بالوردة الحمراء، عام 2002 م، ضمن منشورات المجلس الأعلى للثقافة بمصر، ص 502 ـ 508.
[8]. لدنة: من قولهم: لَدُنَ ــُـ لدانةً ولدونةً: كان ليّنًا، ويراد بها الطراوة، والليونة. ويقال: لَدْنُ الخليقةِ: سهل، وليِّن المعاملة.
[9]. آماد: جمع أَمَد، وهو الوقت والزمان.
[10]. يعود الفارق الإحصائي بين عدد الجمل المذكور قبل الجدول (102 جملة) إلى استخدام موصولات منطوية على جمل فعلية، أو جمل كبرى تُعَد جملتين باعتبارين.