نوع المستند : المقالة البحثیة
المؤلفون
1 أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بالجامعة العليا للدفاع الوطني، ، إيران
2 طالب الماجستير في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الأديان والمذاهب، قم، إيران
المستخلص
الكلمات الرئيسية
الموضوعات الرئيسية
عنوان المقالة [English]
المؤلفون [English]
The request style is one of the styles that has received the attention of critics and scholars due to its grammatical, syntactic, and semantic connotations and dimensions. Using the request style gives the speech an emotional tone that contributes to conveying the poet’s state to the recipient of his poetry. We find that the request styles are among the most important and diverse styles in Arabic grammar studies. They have received great attention from critics and scholars, and they have taken it upon themselves to study the semantic meanings that these styles provide, such as command, prohibition, and calling. The poet Al-Hajri employed these methods in his poetry, and his employment of them came in different positions and to achieve various and specific rhetorical purposes. These methods contributed to identifying the poet’s point of view and his thoughts and contributed to arousing emotion in the recipient and involving him in the process of feeling and creativity.
This is what we will try to study in the collection of poems Bulbul Al-Gharam Al-Kashef 'A Letham Al-Ensejam by the poet Hussam Al-Din Issa bin Sanjar bin Bahram, known as Al-Hajri, who is a poet whose date of birth is not mentioned in the sources, but they mentioned that he died in the year 632 AH. The study aimed to identify the methods of request in Al-Hajri’s Diwan, as the issue of the significance of the structures and the clarification of their meanings is one of the important issues in linguistics. Structure is a branch of semantics, and is linked to grammar. This study aimed and focused on clarifying the extent of Al-Hajri’s eloquence and his ability to construct the poetic text based on a methodological principle that requires the necessity of integrating the science of meanings into grammatical studies. This research attempted to apply this vision to Al-Hajri’s Diwan by using the statistical method in the study to reveal the significance of the methods of command, prohibition, supplication, wishing, and questioning.
Poets usually employ imperative methods in their poems to express the emotions and feelings that occupy their minds. The use of commands adds a rhythm to the text, revealing the poet’s emotions and conveying them to the listener or reader, eliciting their innermost feelings. Thus, employing imperative methods in a poet’s work carries significant meanings. The field of semantics, a branch of rhetorical studies, has emerged to study the meanings of these methods, uncovering the metaphorical functions they perform. It investigates the hidden meanings behind the mentioned expressions. The use of constructional sentences is one of the most widely employed methods in Arabic discourse, forming a linguistic style divided into two categories: the imperative style and the non-imperative style. This study focuses on analyzing imperative methods such as commands, prohibitions, questions, appeals, and wishes, using the diwan (collection of poems) titled Bulbul Al-Gharam Al-Kashef 'A Latham Al-EnsEjam by Al-Hajari as a practical model. This analysis aims to assess the poet's creativity and his skill in portraying creative imperative methods. The significance of this research lies in the importance of semantic studies and their role in revealing the poet's linguistic ability to convey meaning and express what is going on in the soul. Additionally, it highlights the poet's ability to evoke the emotions of the audience. The application of this study to Al-Hajari's poetry in the diwan Bulbul Al-Gharam Al-Kashef 'A Letham Al-Ensejam shows the beauty of his poetry, emphasizing the exploration of his poetry from this perspective.
The research is conducted using a descriptive-analytical approach by finding imperative methods in the Diwan, collecting and classifying them by type, and then analyzing them. The researcher traces the meanings employed by Al-Hajari in his linguistic discourse to convey his aesthetic message to the audience. It was revealed that the patterns of Hajri’s poetic styles were different. for example, he used all types of commands, most interrogative tools, and forms of wish. This variation led to a variation in expression, produced different meanings, and directed the meaning to where the poet wanted. Most of the meanings and secondary purposes found in the poet's collection are supplication, desire, begging, amazement, and direction.
الكلمات الرئيسية [English]
. المقدمة
يعد أسلوب الطلب من الأساليب التي قد حظيت باهتمام النقاد والعلماء، لما له من دلالات وأبعاد نحوية إعرابية ومعنوية. إن استخدام أسلوب الطلب يعطي الكلام نغمة انفعالية، تسهم في إيصال حالة الشاعر إلى متلقي شعره. نجد أنّ أساليب الطلب تعدّ من أهم الأساليب وأكثرها تنوعاً في الدرس النحوي العربي، بحيث قد حظيت بعناية كبيرة من قبل النقاد والدارسين، بحيث قد أخذوا على عاتقهم دراسة المعاني الدلالية التي تقدمها هذه الأساليب من أمر، ونهي، ونداء.
وقد وظّف الشاعر الحاجري هذه الأساليب في شعره. فجاء توظيفه لها في مقامات مختلفة وتحقيقاً لأغراض إبلاغية متنوعة ومحددة. وقد ساهمت هذه الأساليب في التعرف على وجهة نظر الشاعر وفكره، ولعبت في إثارة الانفعال لدى المتلقي وإشراكه في عملية الشعور والإبداع.
وهذا ما سنحاول دراسته في ديوان بلبل الغرام الكاشف عن لثام الانسجام للشاعر حسام الدين عيسى بن سنجر بن بهرام المعروف بالحاجري، وهو شاعر لم تذكر المصادر تاريخ ولادته؛ ولكنها ذكرت أنه توفي عام (٦٣٢ﻫ).
وتهدف هذه الدراسة إلى دراسة وتحليل الأساليب الطلبية في شعره، والوقوف على مدى التحقيق والتعبير عن مكنوناته، باستخدام منهج الوصفي ـ التحليلي.
یسعی هذا البحث إلى الإجابة عن الأسئلة التالية:
ـ ما الأغراض الدلالية للأساليب الطلبية في ديوان بلبل الغرام الكاشف عن لثام الانسجام للحاجري؟
ـ ما الدلالات التي خرجت لها الأساليب الطلبية من أمر، ونهي، ونداء، وتمن، واستفهام في ديوان الحاجري؟
1ـ1. خلفية البحث
من الدراسات السابقة، يمكن أن نشير إلى ما يلي:
رسالة ديوان بلبل الغرام الكاشف عن لثام الانسجام للحاجري: دراسة موضوعية وفنية، لبدر الدين رباع (2008م). فقد تناول الباحث هذا الديوان بدراسة موضوعية وفنية، وحاول أن يكشف عن حالة الشاعر وبعض ملامح شخصيته. أما في الدراسة الفنية، فقد جاءت الدراسة، لتكشف عن إبداع الشاعر في رسم صوره على اختلافها. وكانت معظم تلك الصور مستوحاة من شعره في الغزل، إضافة إلى أشعاره الأخرى. ومن ثم تناول الباحث موضوع التضاد، وكشف عن علاقة الحاجري مع الآخرين؛ ومن خلال التناص، وجد أن الشاعر قد استفاد من شعر من سبقوه، وتأثر بهم. وأخيرا، جاء الإيقاع، فبين الباحث أن الشاعر قد نظم على معظم الأوزان الخليلية، ولجأ في شعره إلى بعض من المحسنات البديعية من جناس ورد الأعجاز على الصدور، وتقسيم البيت الشعري إلى أقسام متساوية، مما أضفى على شعره نغماً موسيقياً واضحاً.
دراسة دیوان بلبل الغرام الكاشف عن لثام الانسجام للحاجري دراسة أسلوبية، لخنساء طبي (2012م). لقد سعت الباحثة من خلال هذه الدراسة إلى إبراز الظواهر الأسلوبية في ديوان بلبل الغرام. ففي الفصل الأول، تناولت المستوى الإيقاعي بنوعيه الداخلي والخارجي. وأما الفصل الثاني، فكان حول المستوى التركيبي وما احتواه من جمل اسمية وفعلية وتقديم وتأخير. والفصل الثالث كان حول المستوى الدلالي بحقوله الدلالية وصوره الشعرية. وتوصلت إلى عدد من النتائج، أهمها: لجوء الشاعر إلى التقديم والتأخير في عناصر الجمل بأنواعها المختلفة، وهذا يرجع لحسن تركيبه؛ وبروز التكرار في معظم الديوان، مما ساهم في تحقيق الكثافة الشعرية؛ وتعدد الصور البيانية وتنوعها في الديوان من تشبيهات واستعارات وكنايات، كونها أدوات يستخدمها الشاعر للإقناع وتعزيز المعنى وتقويته.
ودراسة خصائص أسلوب الطلب في شعر التحرير الجزائري، لخميس رضا (2017م). إنّ هذه الدراسة قد تناولت أساليب الطلب في شعر التحرير الجزائري، وتحدثت عن خصائص هذا الأسلوب في شعره.
وما يميّز دراستنا عن الدراسات السابقة، هو اهتمامها بديوان بلبل الغرام الكاشف عن لثام الانسجام للحاجري، ومحاولة الوقوف على دلالات أساليب الطلب واختصاصها به في شعره، حيث لم تسبق لأحد دراستها من قبل. فالدراسات التي تناولت شعر الحاجري قليلة؛ ومع ذلك، فإن هذه الدراسات التي أشرنا إليها، لم تتناول الأساليب الطلبية. فضلًا عن ذلك، يكمن تميز دراستنا في تركيزها الحصري على الأساليب الطلبية، بدلا من الأساليب الإنشائية التي كانت محور الدراسات السابقة.
هو عيسى بن سِنْجَرَ بن بَهْرام بن جبريل بن خُمارْتكين بن طاشتكين الحاجري الإرْبِلِيُّ الملقّب بحسام الدين، ويُكنّى بأبي الفضل، وكذلك بأبي يحيى (الحاجري، 2003م، ص 8). وينتمي الشاعر أصلاً ونشأةً وحياةً إلى مدينة (إربل)، وهي من مدن العراق المعروفة؛ لذلك نُسِبَ إليها. أما نسبته إلى الحاجري، فلكونه ذكرها في شعره كثيراً، وأنها بلدة بالحجاز، ولم يكن الشاعر منها، ويُعلّل نسبته إليها، فغلبت عليه هذه النسبة. فقال في ذلك:
لَوْ كُنْتُ كُفِيْتُ مِنْ هَواكَ البَيْنَا |
|
مَا بَاتَ يُحاكِي دَمْعُ عَيني عَيْنَا |
لواكَ لَما ذَكَرْتُ نَجْداً بِفَمي |
|
مِنْ أيْنَ أنا وحاجرٌ مِنْ أينا |
(المصدر نفسه، ص 8).
يُرجَّح أنّه وُلِدَ في إربل عام خمسمئة واثنين وثمانين هجریا، وقُتِلَ غيلةً سنة ستمئة واثنين وثلاثين هجريّة، وكان ما يزال في الخمسين من عمره. ولم تذكر المصادر التاريخية تفصيلات عن حياته، بيد أنها أشارت إلى سجنه، من دون تبيان أسباب السجن؛ إذ سُجِنَ بقلعة (خفتيد كان)، وهي قلعة حصينة مشهورة في إربل، ثمّ نُقِلَ منها إلى قلعة (إربل) (ابن خلكان، 1997م، ج 2، ص 240 ـ 241). بعد إطلاق سراحه، اتّصل بخدمة مظفر الدين كُوكْبوري (ت 1232م)، وتزيّا بزي الصوفيّة؛ بغرض تحسين صورته أمامه.
ورد في مخطوطة ديوان الشاعر، أن الأمير ركن الدين أحمد بن شهاب الدين بن قرطاي كان وراء اغتيال الحاجري؛ إذ حرّض الأمير مولاه كوكبوري على ذلك قبل وفاته. وعندما سُجن الحاجري، ورآه قد أُخرج من السجن، وتأخر كوكبوري عن إيذائه، تقدّم الأمير ركن الدين، وجعل يتحيّن الفرصة للانتقام. وقد سنحت له الفرصة بعد وفاة كوكبوري، فدسّ من يتقفّى أثر الحاجري ويغتاله (ابن خلكان، 1997م: ج 2، ص 240).
ذكرت المصادر التي قدّمت له ترجمة، الأعمال الآتية:
ـ ديوان بلبل الغرام: سيأتي حديث تفصيلي عنه.
ـ مسارح الغزلان الحاجرية: جمعه كذلك عمر بن محمد بن الحسين الفارسي الدمشقي الآنف الذكر. وهو ما يزال مخطوطاً. وقد ذكره كل من بروكلمان في كتابه تاريخ الأدب العربي، والزركلي في كتابه الأعلام (د.ت، ج 5، ص 13).
ـ نزهة الناظر وشرح الخاطر: ما يزال مخطوطاً، وهو عبارة عن قصائد متفرقة الموضوعات، جُمِعَت بعد العام 1008 للهجرة / 1599 للميلاد (المصدر نفسه).
ـ القصائد الحجازية في مدح خير البرية: وقد نظم هذه القصائد عندما حجّ، وما تزال مخطوطة.
ومن الملحوظ أن الحاجري كان شاعراً؛ إذ لم تَذْكُر المصادر التاريخية التي ترجمت له، مؤلّفات نثرية، مع أنّ ابن خلكان ذكر في كتابه وفيات الأعيان أنّ هناك مراسلات بین الحاجري وأخيه (1997م، ج 2، ص 238 ـ 239). وأدب المراسلات كان يُعرف في الحقبتين الأيوبية والمملوكية بأدب الترسّل الذي كان يمزج الأديب فيه بين الشعر والنثر (الحاجري، 2003م، ص 25).
قام عمر بن محمد بن الحسين الفارسي الدمشقي بجمع أدب الترسل (ابن خلکان، 1997م، ص 123). وللديوان مخطوطات في أكثر من مكتبة من مكتبات العالم؛ إذ عُثِرَ على نسخ في مكتبات برلين، وليدن، وميونخ، والمتحف البريطاني، وكلكتا بالهند، والقاهرة، والموصل، وآيا صوفيا، وكوبريلي، ومانشستر، والفاتيكان، والمكتب الهندي (بروكلمان،1983م، ج 5، ص 17 ـ 18).
تولّى خالد الجبر وعاطف كنعان تحقيق الديوان، وتمّ نشره سنة 2003م. وقد استندا إلى نُسخة منشورة بمصر سنة 1280ﻫ، وقد أعيد طبعها بمصر، كذلك سنة 1305ﻫ. وهذه النسخة مكتوبة غير مطبوعة بخط النسخ بأسلوب جميل، مضبوطة الشكل، وأخطاؤها قليلة. وهي النسخة التي جمعها عمر بن محمد بن حسين الفارسي، ورتّبها على سبعة أبواب.
ويبلغ عدد صفحات النسخة 87 ورقة من القطع المتوسط 1420. وقد اعتمد عليها المحققان اعتماداً كبيراً؛ لأنّ ناسخها كان الأقرب زمناً وعهداً بالحاجري؛ إذ هو من أبناء القرن الذي عاش فيه الشاعر (الحاجري، 2003م، ص 24). يُضاف إلى أنها أوثق النسخ، وأدقّها، وأقلّها خطأً، وأوضحها، وأحسنها ترتيباً وتبويباً وصنعةً، وهي خالية من أي خرم أو طمس، وأزيد من غيرها في عدد أبيات الشعر والقصائد (المصدر نفسه، ص 25). لقد عمد المحققان إلى إضافة القصائد والأبيات التي لم ترد في نسخة عمر بن محمد الفارسي الدمشقي، ووردت في النسخ الأخرى مع الإشارة إلى ذلك، وقد جهدا على إخراج الديوان بأدق شكل، فقاما بضبط الشعر بالشكل تجنّباً للبس أو التحريف في اللفظ أو المعنى. فكلّ ما ورد في الديوان هو صحيحٌ وزناً ومعنىً ونظماً.
بمراجعة المعجمات اللغوية، بحثاً عن معنى المصطلح النحوي، (الإنشاء)، يتبيّن لنا ما يأتي: «النون والشين والهمزة أصلٌ صحيحٌ يدلّ على ارتفاعٍ في شيء، وسمو. ونشأ السّحاب: ارتفع. وأنشأه اللّٰه: رفعه» )ابن فارس، 1979م، ج 5، ص 428 ـ 429(، و«نشأ أنشأه اللّٰه: خلقه، ونشأ ينشأ نشئاً ونشوءاً ونشاءً ونشأةً ونشاءةً: حَيِى، وأنشأ اللّٰه الخلقَ، أي ابتدأ خلقهم، ...» )ابن منظور، د.ت: ج 6، ص 50(. يشرح المعجم اللغوي المعاصر، كالمعجم الوسيط، هذه المفردة بالقول: «نشأ الشّيء نَشئاً ونشوءاً ونشأةً: حدث وتجدّد. ونشأ الصّبي: شبّ ونما. [...]. (أنشأ) يفعل كذا: شرع أو جعل. يقال: أنشأ فلان يحكي الحديث، وأنشأ السّحاب يمطر. والشيء: أحدثه وأوجده» )2004م، ص 74). يتّضح من المعنى اللغوي الذي تقدمه المعاجم اتفاقها على شرح دلالة المفردة؛ ولكن ما المقصود بهذا المصطلح في البلاغة، وفقا لما تبيّنه المراجع المتخصصة؟
يتفق المتخصصون علی التعريف الاصطلاحي للإنشاء، فهو «ما لا يصحّ أن يقال لقائله أنّه صادق فيه أو كاذب» (قاسم وديب، 2003م، ص 282). وفي تعريف آخر هو «الكلام الذي لا يحتمل الصدق أو الكذب؛ لأنّه لم يُقصَد منه حكاية ما في الخارج، بل هو كاسمه إحداث معنى بالكلام لم يكن حادثاً من قبل في قصد المتكلّم بمعنى أنّه لا يحتمل الصّدق أو الكذب لذاته، أو هو الكلام الذي يستشرف المتكلّم إلى حدوثه» (ربيع، 2007م، ص 113).
ومن التعريفات أيضاً: الإنشاء هو كلّ كلام لا يحتمل الصدق والكذب لذاته؛ لأنّه ليس لمدلول لفظه قبل النطق به واقع خارجي يطابقه أو لا يطالقه، وهذا ما اعتمد عليه العلماء حينما فصّلوا بين الخبر والإنشاء، حيث أكّد القزويني في قوله: «ووجه الحصر أنّ الكلام إمّا خبر أو إنشاء؛ لأنّه إمّا أن يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه أو لا يكون لها خارج الأوّل الخبر، والثاني الإنشاء» (مطلوب، 1980م، ص 107).
إذاً، لا يحتمل الأسلوب الإنشائي الصدق أو الكذب، بل يُعنى بالبناء اللغوي، ويرتبط بالجانب التأثيري العاطفي للغة؛ إذ يضفي على السياقات التعبيرية حيويةً ونشاطاً، ينعكسان على المتلقّي في أحاسيسه ومشاعره، فيحاول أن يُسهم في إنتاج دلالة النص الشعري أو النثري. ويقوم الأسلوب الإنشائي على جملة من المكوّنات، منها المكوّن الصوتي، كالنغمة الصوتية، والمكوّن النحوي أو الصرفي، كأدوات الاستفهام أو النداء، أو صيغ معينة، كصيغة الأمر، وصيغة النهي.
وتعدّ البنية التركيبية من أهم البنى التي تعين على تحليل الخطاب الشعري، «فهي طريق إبداعي آخر موصول بحبل الدلالة التي تمثّل المطلب الأخير البادي في ثوب فنّي يحقّق الجمال والمتعة» (کشك، 1989م، ص 5). وترتكز البنية التركيبية على وصف نظام الجملة فيها، وكيفية تكوينها؛ إذ حظيت الجملة بأهمية كبيرة من طرف النحويين والبلاغيين، فدرسوا أنواعها وأنماطها وصورها. والجملة إمّا أن تكون خبرية أو إنشائية.
وينقسم الإنشاء، حسب تقسيم البلاغيين، إلى نوعين: إنشاء طلبي، وآخر غير طلبي. أمّا الإنشاء غير الطلبي، فهو ما لا يستدعي مطلوباً غير حاصل وقت الطّلب، وأنواعه، كالمدح والذّم، والقسم والتعجب، وصيغ العقود (الهاشمي، 1428ﻫ، ص 7)، بيد أنّ هذا البحث يُعنى عناية خاصّة بالإنشاء الطلبي. ولهذا النوع من الإنشاء، تعريفات كثيرة، نناقشها في المبحث الآتي:
والإنشاء الطلبي هو ما يستدعي مطلوباً غير حاصل وقت الطلب ليحصلَ؛ لأنّ الحاصل لا يُطْلَبُ (السبكي، 2003م، ج 1، ص 420). وأنواعه كثيرة عند النحويين والبلاغيين، غير أنّهم اتّفقوا على خمسة، وهي: الأمر، والاستفهام، والنداء، والنهي، والتمني. وإذا كان المطلوب حاصلاً، امتنع إجراؤها على معناها الحقيقي، وتولَّد منها بحسب القرائن دلالات تناسب المقام (التفتازاني، 1407ﻫ، ص 11)، وهذه الأنواع هي الأكثر استعمالاً وحملاً لشتى الدلالات واللطائف البلاغية، وهي كما سيأتي.
4ـ1. الأمر في ديوان الحاجري: أنواعه وأغراضه الثانوية
في اصطلاح النحويين، قد عُرِّف تعريفات مختلفة، منها: طلبُ الفعلِ بصِيغةٍ مخصوصة (ابن يعيش، 2001م، ج 4، ص 289؛ الهاشمي، 1428ﻫ، ص 86) ، أو هو صِيغةٌ يُطلَبُ بها الفعلُ من الفاعل المُخاطَب، بحذف حرفِ المضارعة (ابن الحاجب، 1985م، ص 46)، أو هو صيغةٌ تَستدْعِي الفعلَ من جهة الغيرِ على جهة الاستعلاءِ مع الإلزام (العلوي، 1419ﻫ، ج 3، ص 281)، أو هو طلبُ فعلٍ غيرُ كفٍّ، وصيغتُهُ افعلْ، ولِيفعلْ، وهي حقيقةٌ في الإيجاب (المخزومي، د.ت، ص 24) ، أو هو طلبٌ مَحْضٌ، يُواجَهُ به المُخاطَب، لإحداث مضمونهِ فوراً (المصدر نفسه).
وأهمُّ ما تشتمل عليه هذه التعريفات أنَّها لا تخْرجُ عن معانٍ ثلاث، هي: دلالتها على الطلب، واقترانُها بالصيغة المخصوصة، واشتراطُها الرّتبةَ للآمِر، فالأمْرُ عند اللغويين هو أُسلوبٌ من أساليبِ الإنشاءِ الطلبي التي تشملُ: الأمْرَ، والنهيَ، والدّعاءَ، والالتماسَ، والنداءَ، والتمنّيَ، والترجّيَ، والاستفهامَ، والعَرْضَ، والتحضِيضَ، والنّداءَ (ابن يعيش، 2001م، ج 4، ص 289 ـ 290).
صيغ الأمر أربع. وقد استعان الحاجري بها من أجل التعبير عن الدلالات التي يريدها، فيحدّدها، ويوجّهها إلى حيث يرغب. وهذه الصيغ هي:
4ـ1ـ1. فعل الأمر الصريح (افعل)
إنّ الصيغة الوحيدة الدالة على معنى الأمْر بصورة مُباشرةٍ، هي صيغةُ "افعلْ"، أي فعل الأمْر. فهذه الصيغةُ مُتأصِّلةٌ في معنى الأمْر والطلب، وبلا عنايةٍ زائدةٍ على معناها الأصلي.
أمّا في ديوان بلبل الغرام، فقد استعان الشاعر بصيغ الأمر على اختلافها. ومما ورد على شكل "افعلْ"، قوله (مجزوء الرجز):
سَلْ طَرْفَكَ الفَتَّانَ |
|
لِمَ أقسمَ لا يَرْحَمُني |
(2003م، ص 120).
هنا فعل الأمر هو "سَلْ"، جاء على الصيغة الرئيسة، وهي "افعلْ". والشاعر في خطابه هذا لا يحيل السؤال إلى عيني المخاطب، فهو لا يعني ذلك، وهو لا يطلب من محبوبته أن تسأل نفسها؛ وبذلك قد خرج أسلوب الأمر عن وظيفته التي ينهض بها قواعدياً، ليؤدي وظيفة بلاغية، تتمثّل هنا بالاسترحام. فالشاعر يستعطف محبوبته، ويرجوها أن ترحمها، فتصله، وتتبادل الغرام معه. أمّا المخاطب، فقد يكون المفرد المذكّر، كقوله (من الطويل):
أَسَاكِنَ قَلْبِيْ لَا بُلِيْتَ بِوَجْدِهِ |
|
سَلَبْتَ الكَرَى، فَامْنُنْ عَلي مَرَدِّهِ |
(المصدر نفسه، ص 94).
وهنا يوجه الشاعر خطابه الشعري إلى محبوبته، بصيغة المفرد المذكّر، والتي قد سلبت قلبه وعقله، وحرمته النوم، فيرجوها ويستعطفها أن تردّ له ما سلبته، وذلك بوصلها له ومطارحته الحبّ والغرام. وغرض فعل الأمر هنا الاسترحام.
4ـ1ـ2. المضارع المقترن بلام الأمر
ومن أمثلته في ديوان الشاعر هو قوله (من الكامل):
أنا فرحةُ النُّدماءِ فَلْيَقْتَادَنِيْ |
|
رَبُّ الخَلاعَةِ والنّديمُ الحاذقُ |
(المصدر نفسه، ص 123).
الفعل الطلبي هنا هو "فَلْيَقْتَادَنِيْ"، وهو فعل مضارع تقدمته لام الأمر، فجعلته دالّاً على الطّلب. ويُلحظ هنا أن الفعل لا يعني الأمر، بل قد خرج من معناه الأصلي، وهو الأمر إلى الخبر. فالشاعر يخبر مخاطبه أنّه رفيق مسلٍّ لمن يرافقه في الشرب، وبهذا، يدعو الندماء إلى مرافقته في الشرب والسهر. وقال الحاجري (من المتقارب):
لِيَهنَكَ مِنِّي هَوىً لَازمٌ يُمَزِّقُ |
|
صَبْرِي ويُمْسِي جَدِيْدَا |
(المصدر نفسه، ص 152).
يعيش دائماً الشاعر لحظات الفراق، وصدّ المحبوبة، والشوق للقياها، فهو يحبها حبّاً لازماً، وهي تنفر نفوراً دائماً، فلتهنأ بهذا الحب، وليتمزق قلبه وصبره ويتجدّد باستمرار. أفاد هنا الفعل المضاع المسبوق بلام الأمر الموجّه للمفرد المذكّر المخاطَب معنى الدعاء. إنّ صيغة "لِتفعلْ" ليستْ بفعل أمْرٍ أصالةً، وإنّما هي فعلٌ مضارعٌ مقترنٌ بلام الأمر. فالأمْرُ مُتأتٍّ من خلال العناية، وهي "اللَّام"، وليس من الفعل نفسه، أي: عن طريق عنايةٍ زائدةٍ على معنى المضارع.
4ـ1ـ3. اسم فعل الأمر
ولم يرد بكل أنواعه في ديوان الشاعر. فالنمط الأوّل، وهو المرتجل، من مثل: صه، ومه، ليس له أي وجود. أمّا النمط الثاني، وهو المنقول عن غيره، فإنّ الشكل الأوّل منه وارد، وهو المنقول عن ظرف أو جار ومجرور. وأمثلته في الديوان (من الكامل):
يَا عَاذِلِيْ فِيْ مَنْ أُحِبُّ جَهالةً |
|
عَنِّي إِلَيْكَ، فَلَيْسَ شَانُكَ شَانِي |
(المصدر نفسه، ص 100).
ومن أمثلة توظيفه لهذا النوع، وهو منقول عن الظرف، قوله (من الكامل):
يَا شَارِبَ الصَّهْبَاءِ دُوْنَكَ فَانْتَهِزْ |
|
أرْضٌ مُزَخْرَفَةٌ وَمَاءٌ دَافِقُ |
(المصدر نفسه، ص 123).
والقصيدة خمرية، وهو هنا يخاطب شارب الخمرة، ويطلب منه أن يشرب، ليعيش نشوة الخمرة وحلاوتها، و"دونك" اسم فعل أمر، بمعنى خذ. وفعل الأمر هنا أدّى غرض الإرشاد. ومن الأمثلة أيضاً قوله (من الطويل):
فَمَا قُلْتُ: إِيْهٍ بَعْدَهَا لِمُسَامِرٍ |
|
مِنَ النَّاسِ إلّا قَالَ قَلْبِيْ آها |
(المصدر نفسه، ص 179).
"إيهٍ" اسم فعل أمر بمعنى "زد" أو "امضِ في الحديث"، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوباً تقديره: "أنت".
4ـ1ـ4. المصدر النائب عن فعل الأمر
والمصدر هو «اسم الحدث الجاري على الفعل» (ابن الحاجب، 1985م، ص 535). إنّ هذا النوع من التراكيب منصوب على الأمر. فدلالته على الأمر متحققة بصيغته نفسه. ومما ورد في ديوان الحاجري قوله (من البسيط):
سُقياً لِأَيَّامِنَا مَا كَانَ أَطْيَبَهَا |
|
وَلَّتْ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ لَذَّاتِهَا وَطَرا |
(المصدر نفسه، ص 135).
القصيدة غزلية، يستذكر فيها الشاعر الزمن الذي قضاه مع محبوبته، فولّى من غير إياب، فبقيت الذكرى الجميلة. فسقى اللّٰه تلك الأيّام الخوالي التي لم يعشها الشاعر، كما يريد، ولم يصل مرحلة الإشباع من لذّاتها. غرض فعل الأمر هنا هو الدعاء الذي عبّر عنه من خلال المصدر "سقياً" النائب عن فعل الأمر "اسقِ".
هو الطلبُ الصادرُ من النظير إلى النظير المُكافئ، وإن كان الالتماس أمراً، إلّا أنّه يفتقر إلى شرط الاستعلاء الذي يتقوّمُ به الآمر؛ لذلك فهو فعل أمْرٍ ظاهر، خرج لمعنى الالتماسِ مجازاً. ومن الأبيات التي اشتملت على أسلوب الأمر عند الحاجري، ودلّت على معنى الالتماس، قوله (من الكامل):
خَلُّوْا فُؤادِي والغَرامَ فإنّه |
|
قلبٌ له بهواهُمُ اسْتِغْرَاقُ |
(المصدر نفسه، ص 87).
المخاطب هنا جماعة، وهؤلاء ليس بمرتبة أدنى من الشاعر، كي يكون الفعل طلبياً أمراً، بل هم مساوون له بالمرتبة، قد يكونون صحبه وخلّانه أو الناس عموماً. فهو يلتمس منهم أن يتركوه وشأنه مع الغرام. فالهوى طافح في قلبه.
يكون الأمر بمعنى الدعاء، إذا استُعمل في طلب الفعل على سبيل التضرع، كقوله (من البسيط):
سُقْياً لِأَيَّامِنَا مَا كَانَ أَطْيَبَهَا |
|
وَلَّتْ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ لَذَّاتِهَا وَطَرا |
(المصدر نفسه، ص 135).
و"سُقْيَاً" مصدر نائب عن فعل الأمر، وقد أدّى هنا معنى الدعاء. فهو يدعو اللّٰه أن يسقي أيامه التي كانت طيبة، ولم يقضِ حاجته منها. ومن أمثلة كذلك قوله (مجزوء الكامل):
يا دَهرُ سَاعِدني عَلى |
|
ذَاك الهَوَى أبَداً وَواطِي |
(المصدر نفسه، ص 164).
ليس بإمكان الشاعر أن يأمر الدهر. وبذلك فإن الفعل "ساعدني" الذي جاء على صيغة "افعل"، عدل عن معنى الأمر، لينجز معنى آخر له وظيفة بلاغية، هي: الدعاء؛ إذ يدعو الحاجري المساعدة والمواطأة من الدهر.
4ـ1ـ7. التمني
يفيد فعل التمني معنى الرغبة. ومن أمثلته قوله (من الكامل):
اِذْكُرْ مَلَاعِبَنَا بِرَمْلَةِ حَاجِرِ |
|
حُوْشِيْتَ من شِيَمِ الخَؤون الغادِرِ |
وَاحْفَظْ عُهُوْدَاً بِالحِمَى عَاهَدْتَنِي |
|
أيَّامَ كُنْتَ مُنادِمِي وَمُسَامِرِي |
(المصدر نفسه، ص 70).
فالشاعر يتمنّى أن تذكر محبوبته أيام اللهو والحب والغرام، وما كان بينهما في قديم عهدهما. فما الغدر والخيانة من شيمها. إنّ الفعلين "اذكرْ" و"احفظ" جاءا على وزن افعل، وقد قاما بوظيفة التمني. فما يطلبه الشاعر، ليس بأمر، بل هذا ما يرجوه ويتمنّاه من محبوبته. وكثيراً ما أَمِلَ الحاجري وتمنّى، فقال مثلاً (من الكامل):
عَرِّجْ بِرامِةِ إنَّ رامةِ مُنْتَهَى |
|
أَمَلِيْ وغايةُ بُغْيَتِيْ ومُرادي |
(المصدر نفسه، ص 54).
و"رامة" هي موضع، يقع بينها وبين الرّمادة ليلةً واحدة على طريق البصرة إلى مكة، ومنها إلى إمرة، التي تُعد آخر بلاد بني تميم. وتبعد رامة عن البصرة اثنتي عشرة مرحلة. وفي هذا السياق، يطلب الحاجري من مخاطبه قصد رامة، حيث تقيم محبوبته التي تمثل غايته ومراده. ويحمل الأمر في هذه الجملة غرض التمني؛ إذ يأمل الشاعر أن يحقق صاحبه هذه الزيارة (الحاجري، 2003م، ص 32).
يؤدّي فعل الأمر معنى الإرشاد، عندما يشير المتكلّم للمخاطب أن يفعل أمراً ما إرشاداً له. ومن أمثلته في ديوان الحاجري (من الطويل):
خَلَيْليَّ عُوْجَا نَسْأَلِ الرَّكْبَ حَاجَةً |
|
بِنَجْدٍ، فَإنّا قد عَرَفنا بها عَرْفا |
(المصدر نفسه، ص 118).
في البيت، يطلب الشاعر من صاحبيه إرشاداً أن يميلا إلى الركب السّائر، كي يسألوه عن أحبائهم الذين عرفوهم بنجد. كما يقول الشاعر (من الكامل):
وَإِذَا بَخِلْتُم بِالسَّلَامِ فَحَمِّلُوا |
|
رَيَّاكُمُ رِيحَ الصِّبا والشّمألا |
(المصدر نفسه، ص 71).
وهنا يسأل الشاعر من محبوبته أن ترسل له مع رياح الصبا رائحتها الطيبة في حال تمنّعت عن إلقاء السلام عليه. وبخطابه هذا إرشاد للمحبوبة وتوجيه، وهو يوجّه خطابه الشعري بأسلوب الجمع المذكّر احتراماً لها وتقديراً، ويستخدم الصيغة القياسية لأسلوب الأمر "افعلْ".
هو استعطاف المخاطب. وأمثلته في الديوان غير قليلة، خاصّة أن القصائد غزلية، وفي معظمها، يحكي الشاعر فيها عن نفور محبوبته وصدّها. من ذلك قوله (من الطويل):
أَيَا لَيْلُ قَدْ أَتْلَفْتِ نَفْسِي تَرَفَّقِيْ |
|
عَلَى أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ فِيْكِ افْتِخَارُهَا |
(المصدر نفسه، ص 119).
لا يوجه الشاعر في خطابه أمرا أو طلبا صريحا، بل يستعطف المخاطب؛ وبذلك، يكون الغرض من الفعل هو الاسترحام، لا الأمر والإلزام. فالفعل المستخدم هنا ليس أمرا حقيقيا. وقوله (من مجزوء الرجز):
سَلْ طَرْفَكَ الفَتَّانَ |
|
لِمْ أَقْسَمَ لا يَرْحَمُني |
(المصدر نفسه، ص 120).
يستعطف الشاعر محبوبته، ويستميلها، فيوظّف هنا الفعل الأمر "سَل"، أي اسأل. يُلحظ أن الشاعر قد صاغ انفعالاته على مجزوء الرجز. وتعدّ الأوزان القصيرة ملائمة لحالة الانفعال الشديد والحزن، بسبب يسره وسرعته.
وفيه توجيه نصيحة للمخاطب. من ذلك قوله (من الخفيف):
فَإِذَا أَمْكَنَتْكَ فُرْصَةُ الشَّبَابِ |
|
فَاقْتَدِحْ مِنْ زِنَادِهَا بِشهَابِ |
وتَغَنَّمْ صفوَ الزَّمانِ فإنّ الــــ |
|
ـــعمْر إنْ طالَ لمعةٌ من سرابَ |
(المصدر نفسه، ص 61).
من الجلي أن الشاعر هنا يستعين بأفعال الأمر "اقتدح، تغنّم"، بغرض النصح لا الأمر. فالعمر لمعة من سراب، ينقضي من دون أن يشعر أحد به؛ لذلك ينصح الشاعر مخاطبه أن يغبّ من الدنيا غباً، فيعيش ملذّاتها، ويهنأ بهنائها، من دون أن يكدر نفسه ويتعسها.
وفي التضرع توسّل وتذلّل وخضوع. لقد ورد في مقاييس اللغة: «ضَرَعَ: الضّاد والرّاء والعين أصل صحيح يدلّ على لينٍ في الشيء» (1979م، ج 3، ص396). والحاجري عندما يخاطب البرق الذي يضيء سماء المحبوبة، يتضرّع له، ويستجدي خبراً منه عنها، فيقول (من البسيط):
وبَارقٍ لاحَ نحْوَ الجِزْعِ هَيَّجَ |
|
بالرَّقْمَتَيْنِ صَبابات قَديماتِ |
يَا بَرْقُ أنَتَ قرَيِبُ العَهْدِ مِنْ سَلَمٍ |
|
قِفْ نَبِّنِيْ خَبَراً حُيِّيْتَ مِن آتِ |
(المصدر نفسه، ص 68).
فهذا البرق الذي اشتعل في السماء، حرّك في قلبه هوى القديم. فهنا يناديه ويستجديه نبأً عن المحبوبة، فيقول: "قفْ، ونَبِّنِي"، فهو يتضرّع له، ويسأله الوقوف والإعلام عن محبوبة نهض هواها في قلبه واستجدَّ. ومما قال أيضاً (من الطويل):
نَشَدْتُكِ يَا رِيْحَ الشِّمَالِ تَحَمَّلِيْ |
|
شِكَايَةَ مَنْ شَكْواهُ غايَةُ جُهْدِهِ |
(المصدر نفسه، ص 95).
هنا، يتوسّل أن تصغي له في شكواه الذي ليس بالإمكان أن يفعل شيئاً غير ذلك. وفي مخاطبة الريح تضرّع وتوسّل. وكثيراً ما قد نادى الشاعر ريح الشمال؛ وباعث ذلك أنّها هي التي هبّت باتجاه أرض المحبوبة وديارها.
وفيه يرغب المتكلّم أن يوجه الإهانة لمخاطبه. ومن أمثلة ذلك عند الحاجري قوله (من الكامل):
صُلْ صَوْلَةَ الحَقِّ الحَقُود عليهم |
|
واغضبْ فأنتَ بذلك المأجورُ |
(المصدر نفسه، ص 84).
لقد أفادت الأبيات هنا معنى التحقير. فالشاعر قال هذه القصيدة في مسجد هجره أهله، فما عاد عامراً بزائريه. وهنا من باب التحقير، يطلب الشاعر من مخاطبه أن يصول ويجول ويغضب، علّه بذلك يعيد إلى هذا المسجد شيئاً من ماضيه؛ ودليل ذلك ما قاله في البيت التالي:
واخجلتي والذُّلَّ حينَ يُمَرّ بِي |
|
فيُقال: هذا مَسْجِدٌ مَهْجُورُ |
(المصدر نفسه).
وظيفة الأمر هنا ترك حرية اتخاذ فعل أو رد فعل للمخاطب. ومن ذلك قوله (من السريع):
إنْ شِئتَ قاطِعني وإنْ شئتَ صِلْ |
|
لا بدَّ منك على كلِّ حالْ |
(المصدر نفسه، ص 158).
والبيت من قصيدة غزلية، يتغزّل فيها الشاعر بعيني محبوبته التي تسبي العقول مستخدماً فعلي أمر بغرض التخيير. فهو يحبّها ويريدها؛ لكنّه يترك لها الحرية بوصله أو مقاطعته. ولا يريد الشاعر هنا أن يلزمها أو يأمرها، بل يخيّرها بفعل ما تشتهي وتريد. قد استخدم الشاعر صيغتي "فَاعِلْ" للثلاثي المزيد "قاطعْ"، و"افعلْ" للفعل "صِلْ"، وهو فعل ماض ثلاثي معتل مثال، وخاطب محبوبته بصيغة المفرد المذكّر. ومن أمثلة هذا الغرض، قوله (من الطويل):
خَلَعْتُ عِذَارِي وَاسْتَرَحْتُ مِنَ الحِجَى |
|
وَقُلْتُ لجَهْلِيْ: مَا بَدَا لَكَ فَاِفْعَلِ |
(المصدر نفسه، ص 172).
يميل الشاعر إلى اللهو والخلاعة وتعاطي الخمرة، ومبادلة الغرام والهوي مع حبيبته، وبذلك يترك لنفسه حرية أن تفعل ما تشاء. نهض فعل الأمر هنا "افعل" بوظيفة التخيير الذي ساعد السياق على تحديده.
4ـ2. النهي وأدواته في ديوان الحاجري
يعدُّ النهي مصطلحا نحويا يفيد معنى (النفي)؛ إذ يقول سيبويه: «لا تضرب نفيٌ لقوله اضرب» (د.ت، ج 1، ص 136)، وهو «طلب الكفّ عن العمل أو الامتناع على وجه الاستعلاء والإلزام» (عتيق، 2003م، ص 90). والنهي لا يكون إلّا فيما يُستقْبَل من الزمان؛ لذلك تجعل زمن الفعل مستقبلاً (سيبويه، د.ت، ج 3، ص 8).
والنَّهي نوعٌ من أنواع الإنشاء الطلبي، ويشترك مع الأمر في توفّر شرط الاستعلاء، فهو طلب الکفّ عن شيء علی وجه الاستعلاء، قال تعالى: «وَلَا تُفْسِدُوْا فِيْ الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَلَا تَجَسَسَوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُکُمْ بَعْضَاًª (الأعراف 7: 56). فالأفعال "لا تفسدوا، لا تجسسوا، لا يغتب" مضارعة، سبقتها لا الناهية الجازمة. وإذا كان النهي صادراً من الأعلى إلى الأدنى، فإنّ (لا الجازمة) تفيد الطلب، وإذا كان من الأدنى إلى الأعلى، فوظيفتها الدعاء، وإذا كان النهي مساويا ونظيرا للمخاطب الذي ينهيه عن الأمر، فإنّ لا الجازمة تكون للالتماس.
والنهي على نوعين: أ. نهي حقيقي؛ ب. نهي بلاغي. أمّا النهي الحقيقي، فهو ما يكون من الأعلى إلى الأدنى على سبيل الاستعلاء والإلزام، كقوله تعالى: «وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِª (الحجرات 49: 11)، وقوله: «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِª (الإسراء 17: 34)، وقوله: «ولَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَª (البقرة 2: 283). أمّا النهي البلاغي، أي غير الحقيقي، فلا يكون كذلك إلّا إذا انتفى منه الإلزام والاستعلاء، كلاهما أو أحدهما (عاكوب، 1996م، ص 258).
ورد فعل النهي في ديوان الحاجري في 24 موضعاً فقط؛ وبذلك يكون أقلّ الأساليب الطلبية استخداماً في الديوان. ومن أمثلة توظيف هذا الأسلوب قوله (من البسيط):
لَا تَقْطَعُوْا الحَبْلَ مَا بَيْنِيْ وَبَيْنَكُمْ |
|
إِنَّ الكَرِيْمَ لِقَطْعِ الحَبْلِ وَصَّالُ |
(المصدر نفسه، ص 139).
وهذا البيت من قصيدة، قالها موجّهة إلى معارفه أو أصدقائه الذين جاذبهم الودّ المحبة، بيد أنّهم عاملوه عكس ذلك، فعاش معهم غير هانئ البال ولا جيّد الحال. ومع ذلك لا يرغب الشاعر عنهم، بل يريد وصالهم والتفاعل معهم، ويوجه خطابه راجياً أن لا يقطعوا سبل الود والمحبة بينهم. والشّاعر هنا لا يأمر. فمن يخاطبهم ليسوا بمرتبة أدنى منه، بل هم مساوون له؛ ولذلك قد عدل أسلوب النهي عن معناه الحقيقي المتمثّل في الأمر والطلب، إلى معنى آخر فيه تأديب. والتأديب يشبه الإرشاد؛ لكن غايته إرساء خلق قويم أو الكفّ عن سلوك سيء؛ بذلك فغايته تأديب المخاطب لا مجرد نصحه فقط.
ومن وظائف أسلوب النهي الأساسية هو الالتماس، ومن ذلك قول الحاجري (من الكامل):
يَا سَائِقَ الأَظْعَانِ لَا تَلْوِي بها |
|
إِعن بانِ كُثْبَانِ اللِوَى وَالأَجْرَعِ |
(المصدر نفسه، ص 59).
هنا يخاطب سائق القافلة التي تسير بالنساء، وحبيبته واحدة منهن، وهو يلتمس منه أن لا يبتعد بالقافلة عن كثبان اللوى والأجرع، حيث يمكث هو؛ وبذلك يتتمكّن من رؤيتها والاجتماع بها. لقد وظّف الحاجري جملة النهي، بيد أنّه لا يقصد فيها أن يُلزم المنهي بفعل أمر، بل قد خرج أسلوب النهي لتأدية غرض آخر، فيه التماس. ومن أمثلة ذلك هو قوله (من الخفيف):
لَا تَزِدْنِي عَلَيْكَ فِيْ الحُبِّ وَجْدَاً |
|
بَعْضُ مَا بِيْ مِنَ الصَّبَابَةِ يَكْفَى |
(المصدر نفسه، ص 106).
يلتمس الحاجري من محبوبه ألّا يزيده وجداً وألماً وشوقاً، فما يعانيه يكفيه. ويُلحظ هنا قيام (لا الجازمة) بمهمة الالتماس لا النهي، وذلك أن مرتبة الشاعر من مخاطبه لا تسمح له بالاستعلاء أو الإلزام؛ لذلك فإنّ أسلوب النهي يشير إلى الالتماس.
4ـ3. الاستفهام وأدواته في ديوان الحاجري
الاستفهام اصطلاحاً هو «استعلام ما في ضمير المخاطب. وقيل هو طلب حصول صورة شيء في الذهن. فإن كانت تلك الصّورة وقوع نسبة بين الشيئين أو لا وقوعها، فحصولها هو التصديق، وإلا فهو التّصور» (الجرجاني، 1983م، ص 18)، وهذا في المصادر القديمة. أما المراجع المتخصصة الحديثة، فقد عرّفت الاستفهام بالقول: «الاستفهام: هو طلب العلم بشيء لم يكن معلوماً من قبل وذلك بأداة من إحدى أدواته الآتية، وهي: الهمزة، وهل، وما، ومتى، وأيان، وكيف، وأين، وأنى، وكم، وأي» (الهاشمي، 1428ﻫ، ج 1، ص 78)، فذكِر أنَّه طلب العلم بالشيء لم يكن معلوما من قبل.
ومن التعريفات كذلك: «الاستفهام طلب العلم بشيء لم يكن معلوماً من قبل، وهو الاستخبار الذي قالوا فيه إنّه طلب خبر ما ليس عندك، أي طلب الفهم، ومنهم من فرق بينهما، وقال إنّ الاستخبار ما سبق أولا ولم يفهم حق الفهم، فاذا سألت عنه ثانيا كان استفهاما» (مطلوب وآخرون،1980م، ج 1، ص 118). وهذا التعريف بيّن المعنى، مع التمييز بين الاستفهام والاستخبار. فالاستخبار يكون ما قبل الفهم، فهو يأتي قبل الاستفهام وبعد ما يتمّ فهمه يصبح استفهاماً. إن إنعام النظر في ديوان الحاجري يُظْهِر أنّه قد استعان بأدوات الاستفهام كلّها، ليبيّن ما يبغى من الأفكار، وليوجّه معناه حيث يريد.
تحمل الهمزة دلالات متنوعة، منها طلب التصديق، حيث يسعى السائل إلى الحصول على إجابة بالإثبات أو النفي عن سؤاله. وتؤدي الهمزة هذا المعنى تحديدًا عندما لا تتبعها "أم" المعادلة العاطفة. فإن قيل: أعندك زيدٌ أو عمروٌ، فإنّ الجواب يجب أن يكون نعم أو لا، من دون أن يكون محدّداً (سيبويه، د.ت، ج 3، ص 179؛ ابن هشام، 1378ﻫ، ص 8). كما تفيد طلب التصور. وهنا يجب أن تكون الإجابة محدّدة، ولا يجوز أن تكون بنعم أو لا، وتليها أم المعادلة العاطفة. فإن قيل: أعندك زيدٌ أو عمروٌ؟ فيلزم تحديد أحد الاسمين، كأن يقال: زيدٌ (سيبويه، د.ت، ج 3، ص 169).
لقد أوضح سيبويه وغيره من النحويين أنّها تخرج عن هذين المعنيين إلى معانٍ أخرى، بحسب السياق، فتكون بصورة الاستفهام وشكله ومعناه غيره. ومن هذه المعاني: التقرير، والتوبيخ، والإعلام، والتسوية، والإنكار، والوعد، والتهديد، وغير ذلك (المصدر نفسه، ج 1، ص 338). ومن أمثلة استخدام الهمزة في شعر الحاجري ما يلي (من الطويل):
أَأَطْلُبُ مِنْ سُلَيْمَى بَدِيْلَاً وَأَبْتَغِيْ |
|
سُلُوَّاً؟ أَلَا لَا نِلْتُ قَصْدِيْ طَالِبَا |
(2003م، ص 83).
والجملة الاستفهامية هنا "أَأَطْلُبُ مِنْ سُلَيْمَى بَدِيْلَاً وَأَبْتَغِيْ سُلُوَّاً؟". والمستفهِم هنا هو الشاعر، والمستفهم منه مفرد مؤنّث، وهو محبوبته سُليمى، والمستفهم عنه: استبدال سليمى، وأداة الاستفهام الهمزة. وإن كان الشاعر يسأل، فهو لا يبتغي جوابا، بل يستنكر ويوبخ من خلال سؤاله. فإنه لا يرى بديلا لمحبوبته، ولن يجد سلوةً من دونها. وبعد ذلك، يدعو على نفسه بألا يتحقق له طلب أو يصل إلى مراد إن فعل غير ذلك. إذن، غرض السؤال هنا هو التوبيخ، فهو لا يبحث عن إجابة بل يستنكر ويشجب ما قد يحدث. يستعين الشاعر بأداة الهمزة التي وظيفتها النحوية طلب التصدیق، لكنّها قد أنجزت غرضاً بلاغيّاً يكمن في التوبيخ والاستنكار، وهي وظيفة معروفة لأدوات الاستفهام.
ويستخدم الشاعر كذلك "هل". و"هل" حرف استفهام لطلب التصديق. هنا السائل لا يدّعي أنّ السؤال واقع، وحاجته من المستفهم منه أن يجيب بنعم أو لا إثباتاً أو نفياً، تقول: هل تضربُ زيداً؟ فتكون الإجابة: نعم، إذا كان مثبتاً الضرب، ولا إذا كان نافيّاً (سيبويه، د.ت، ج 3، ص 176). كما تفيد "هل" طلب التصوّر، فتقع موقع الهمزة وأم المتّصلة (ابن مالك، 1957م، ص 209). وقد تفيد "هل" أغراضاً أخرى، كالتحقيق، والأمر، والتقرير، والنفي والتوكيد (الفراهيدي، 1985م، ص 157). ومن توظيف الشاعر لهذه الأداة قوله (من البسيط):
يَا بَرْقُ، هَلْ رَبَّةُ الخَالَيْنِ ذَاكِرَةٌ |
|
بَعْدَ البِعَادِ لَنَا عَهْدَاً وَمِيْثَاقَا؟ |
وَهَلْ تَعُوْدُ مَغَانِيْ الشِّعْبِ تَجْمَعُنَا |
|
يَوْمَاً وَيَشْرَحُ كُلٌّ بَعْضَ مَا لَاقَى |
(المصدر نفسه، ص 97).
فالبيتان من قصيدة غزلية، فيها شيء كثير من بث الهوى، والحبّ والعشق، ولواعج الألم والحرقة، والحزن على رحيل المحبوبة. وفيها، يردّ الحاجري لوم اللائمين، وعتب العاتبين. وأداة الاستفهام تفيد التقرير. فبين الشاعر والمحبوبة الهاجرة وعود ومواثيق، وهو يرى أنّها لن تنسى ذلك، فيقرر أنّه ستبقى ذاكرة. في البيت الثاني، يشكّ الشاعر أنّ العودة ستقع، وسيلتقي المتفرقون؛ وبذلك تفيد "هل" الشك، بحيث تعين الشاعر على التعبير عن فكرته، فيوجّه كلامه إلى حيث يريد.
ومن الأدوات المستخدمة بكثرة في قصائد الديوان هي "كيف". وقد كانت هذه الأداة هي الغالبة في ديوان الحاجري. وتكون هذه الأداة منصوبة على الظرفيّة، وموضعها رفع على أنها خبر في القول: كيف زيدٌ؟ والنصب على الحالية، من مثل: كيف جاء زيدٌ؟ )ابن هشام، 1378ﻫ ، ص 226).
تفيد "كيف": في طلب التصور عن الحال، فهي سؤال عن الحال، وتفسيرها: على أيِّ حالٍ؟ تقول: كيف زيدٌ؟ فيكون الجواب: صالحٌ أو عليلٌ. وتقول: كيف أصبحتَ؟ أو كيف أنتَ؟ فيقول: صالحاً أو غيره (سيبويه، د.ت، ج 2، ص 128). من أمثلة توظيف "كيف" في ديوان بلبل الغرام، هو قول الشاعر (من الخفيف):
كَيْفَ أَصْحُوْ هَوىً وَطَرْفُك |
|
كاسٌ بابِلِيٌّ يَطِيْبُ مِنْهُ الصَّبُوحُ؟ |
(2003م، ص 58).
والخمر البابليّة مشهورة، وشرب الصبوح يعني شرب الخمر وقت الصباح، وهي عند العرب في أصلها لشرب اللبن، ثمّ نُقِل المعنى للخمر. يوظّف الشاعر الأداة "كيف"، وهو هنا لا يسأل عن الحال، بل يتعجّب. والتعجب من الأغراض البلاغية التي تؤدّيها هذه الأداة. وتأويل الكلام هو التعجب من أن يصحو من عشق معشوقته، فعيونها تسبي العقل، وتدخله في الخدر من شدّة جمالها، وهو يشبهها هنا بالخمر البابلية المعروفة بطعمها، وأثرها في النفس والعقل. ومن أبيات الشاعر التي يستعين فيها بـ"كيف"، قوله (من الكامل):
كيفَ التَّخُلُّصُ مِنْ هَوَاكَ لِمُغْرَمٍ |
|
دَاءُ الصَّبَابَةِ فِيْ هَوَاُه مُبَرِّحُ؟ |
(المصدر نفسه، ص 67).
والشاعر، وإن كان يسأل، فهو لا يستفهم عن الحال، بل يستغرب ويتعجب من فكرة ترك المحبوب والتّخلي عن حبه وهواه. فهو متيم ويعشق ويتألم في هذا الحب. ومن أبياته التي قد استخدمت أداة "كيف" للتعجب فيها هو قوله (من الكامل):
كَيْفَ التَّخَلُّصُ وَالجُفُوْنُ نَوَاعِس |
|
وَبِمَ التَّسَلِّيْ والقُدُودُ رِشَاق |
(المصدر نفسه، ص 87).
ويُلحظ وجود جملتين استفهاميتين، الأولى: "كَيْفَ التَّخَلُّص؟"، والثانية: "وَبِمَ التَّسَلِّيْ؟" تحمل كلمة "كيف" الواردة في الأبيات معنى اللوم والتوبيخ، لا سيما أنه سبق هذا البيت بيتُ يقول فيه:
يَا قَلْبُ عَنَكَ وَمَنْ يُعَنِّفُ فِيْ الهَوَى |
|
فَاللَّوْمُ عِبءٌ لَا يَكَادُ يُطَاقُ |
(المصدر نفسه).
فهو يلوم لائمه، ويعاتبه، ويطلب منه أن يتركه وشأنه؛ وبذلك تفيد "كيف" في البيت التالي التوبيخ، توبيخ ذاك اللائم الذي يريد من الشاعر أن يتخلّص من محبوبه ذي الجفون الناعسة، والقدّ الرشيق.
4ـ3ـ4. الاستفهام بـ"ما / ماذا"
في الشطر الثاني من البيت السابق، يقول الشاعر: "وَبِمَ التَّسَلِّيْ؟" أداة الاستفهام هنا "ما". ودلالة "ما" الحقيقية هي طلب التصور عن غير العاقل أو طلب التصوّر عن العدد (سيبويه، د.ت، ج 4، ص 228)، بيد أنّ "ما" في بيت الشاعر قد خرجت عن معناها الحقيقي إلى معنى آخر، وهو التعجب. فمن دلالات "ما" البلاغية هو التعجب والتعظيم، والأمر، والتحقير، والتقرير (المصدر نفسه، ج 1، ص 299؛ ابن الشجري، د.ت، ج 1، ص 263). وفي: "بمَ التّسلي، والقدود رِشاقُ؟"، يتعجّب الشاعرممن يطلب منه هجر المحبوبة والتّسلي عنها، ويُعظم هذا الأمر، فهو هنا يسعى إلى إنجاز غرض بلاغي، لا تقديم وظيفة نحويّة.
وقد ورد أعلاه قول الحاجري (من الكامل):
مَا للدُّمُوعِ تَسِيْلُ سَيْلَ الوَادِيْ |
|
أَحَدَا بِرَكْبِ العَامِرِيَّةِ حَــــــــاد؟ |
(2003م، ص 53).
وهنا يستخدم الشاعر أداة "ما" بغية التعجب. فهو يتعجّب من هذه الدموع التي تأبى التوقف عن التهطال، حزناً وألماً من رحيل محبوبته.
والاستفهام بـ"من" يفيد طلب التصور عن العاقل، وجوابه محدّد بذكر هذا العاقل (سيبويه، د.ت، ج 4، ص228)، بيد أنّها قد تُستخدم لأداء وظائف بلاغيّة. فيحمّلها الشاعر دلالات غير الاستفهام. يقول الحاجري (من السريع):
مَا كُنْتُ في عِشقي لِذَاكَ القَوَامْ |
|
أوَّلَ مَنْ حَبَّ مَلِيْحَاَ فَهَامَ |
يا صاحِبَ المُقْلَةِ يَسْطو بِهَا |
|
اللهَ فِيْ سَفْكِ دَمِ المُسْتَهَامْ |
مَنْ دَلَّ ذَاكَ الطَّرْفَ لَمَّا |
|
رَنَا أَنَّ فُؤادِيْ غَرَضٌ لِلسِّهَامْ |
(2003م، ص 133).
ويتجلى الحب قويا في هذه الأبيات. فالشاعر ليس أول من ابتُلي بحب الجميلات ذوات القد الأهيف والعيون النجلاء. فهو يستخدم الاستفهام كأسلوب للتعجب من معرفة هذه الحسناء بقدرتها على إصابة الشاعر بنظرة قاتلة. فالاستفهام هنا لا يقتصر على التعجب، بل يحمل دلالات أخرى؛ إذ يستعين به المتكلم لإيقاع الفعل، وهو ما يُعرف بـ"الحث"، لإيصال فكرته وحث المخاطب. فيقول (من الكامل):
مَنْ دَلَّ ذَاكَ الطَّرْفَ لَمَّا |
|
رَنَا أَنَّ فُؤادِيْ غَرَضٌ لِلسِّهَامْ |
مَنْ لِيْ بِحَمْلِ تَحِيَّةٍ مَوْدُوعَةٍ |
|
شَكْوَى يَرِقُّ لَهَا العَدُوُّ المُحْنَقُ |
(2003م، ص 255).
هنا لا يسأل عن إنسان عاقل ولا يطلب اسمه، بل يحثّ المخاطب على القيام بفعل. والفعل هنا "حمل تحية" للمحبوبة؛ وبذلك، تؤدي أداة الاستفهام وظيفة غير الاستفهام، وهي الحث. فالشاعر يريد أن يُضمّن تحيته شكوى ألم وعتب، يرقّ لها حتى العدو الحانق.
4ـ3ـ6. الاستفهام بــ"أين"
تعني "أين" طلب التصور عن الأماكن. فهي سؤال عن الأمن، ومعناها: في أي مكان، وجوابها محدّد، فإن قيل: أين زيدٌ؟ يكون الجواب: في البيت أو في مكان محدد (سيبويه، د.ت، ج 1، ص 219). استخدم الشاعر "أين" في 6 مواضع لا غير، وقد خرجت عن معناها الحقيقي، لتشير إلى دلالات ذات أغراض بلاغية أخرى من باب المجاز. فالشاعر فيما قال لا يسأل عن مكان ما، ولا يتوقّع ممن يخاطبه جواباً، ومما قال (من الكامل):
يَشْتَاقُ مِنْ بَغْدَادَ بَانَ طُويلِعٍ |
|
هَيْهَاتِ أَيْنَ البَانُ مِنْ بَغْدَادِ؟ |
(2003م، ص 54).
يعبّر الحاجري هنا عن شوقه لطويلع، وهو اسم مكان في نجد، حيث تقيم محبوبته، وقد رمز لها بالبان، وهو نوع من الشجر، وعندما يقول: أينَ البَانُ من بغداد، هو لا يسأل عن مكان ما، بل يستخدم الاستفهام بـ"أين"، لتدل على معنى الاشتياق. والمعنى ذاته يعبّر عنه في قوله (الرجز):
رُدُّوا لقلبي القَلِقَ القرارا |
|
وخبِّروني الرَّكبُ أَيْنَ سَارَا |
(المصدر نفسه، ص 145).
والبيت مطلع قصيدة غزلية يحكي الشاعر فيها عن حزنه لرحيل محبوبته، فيشتهي الاستقرار النفسي لقلبه من خلال معرفة مكان محبوبته التي هجرته، وغادرت دياره، من دون أن يعرف أين ركبها حطَّ. بلاغيّاً لا تعني "أين" هنا طلب معرفة المكان. فالشاعر يعلم أين تسكن محبوبته؛ لكن وظيفتها هي التعبير عن الاشتياق. ومن حمولات "أين" الدلالية هو التعبير عن اللوم والعذل. وهذا في قوله (من البسيط):
يَا عَاذِلِيْ، أَيْنَ سَمْعِي مِنْكَ وَالعَذَلُ |
|
أَسْلُوهُ؟ كَلَّا وَطَرْفٍ زَانَهُ الكَحَلُ |
(المصدر نفسه، ص 93).
فهنا يخاطب عاذله الذي يلومه على هواه لمحبوبته، وعشقه لها، وعدم قدرته على نسيانها، يستخدم الأداة "أين"؛ لكنه هنا لا يسأل، ولا يتوقّع جواباً من عاذله، يل يوظّفها بغية اللوم، لوم العاذل نفسه. ومن أغراض الاستفهام بـ"أين"، هو التفجّع. والتفجّع بمعنى الرزية،،أي رزية أكبر من فراق الحبيبة.
تشير "متى" إلى طلب التصور عن الزمان. فهي سؤال عن تعيين الوقت؛ إذ يقال: متى يُسار عليه، فيكون الجواب: اليومَ أو غداً (سيبويه، د.ت، ج 1، ص 216). ولا يجوز أن يكون جوابها نكرة لعدم فائدته. فإذا كان جواب السؤال السابق: يوماً أو شهراً، فإنّه غير مقبول؛ لأنّ الوقت لم يُحدَّد (ابن يعيش، 2001م، ج 4، ص 104). وردت "متى" في الديوان في ستة مواضع؛ إذ يقول (من الطويل):
أساكن قلبي، لا بُلِيْتَ بِوَجْدِهِ |
|
سَلَبْتَ الكَرَى، فَامْنُنْ عَلَيَّ بِرَدِّهِ |
مَتَى يَنْقَعُ الظَّمْآَنُ مِنْكَ غَليلَه |
|
إِذَا كَانَ مَاءُ الدَّمْعِ أَعْذَبَ وِرْدِهِ |
(2003م، ص 94).
وقوله (الرمَل):
يا غَزَالاً حَلَفَت مُقْلَتُهُ |
|
أنَّهَا تُشْهِرُ أَسْيَافَ الفِتَن |
قُلْ لِخَدَّيْكَ مَتَى كَانَ الحَيَا |
|
لِجَحِيْمِ النَّارِ رَبْعَاً وَوَطَنْ |
(المصدر نفسه، ص 169).
القصيدة غزلية، بيد أنّ فيها كثير من الحزن والشجن؛ إذ يتحدّث الشاعر كثيراً عن الهجران والفراق والغياب، ويصف هنا محبوبته بالغزال الذي أشهر عليه سيف الفتنة والحدّة في الجمال، ويستخدم "متى" للتعجب من أن يكون الخد الجميل، الذي يفترض أن يكون رمزا للحياة والجمال، مكانا أو سببا لنار الجحيم؛ حتى كأنه يقول: كيف يمكن أن يكون هذا الجمال مصدرا للعذاب والهلاك؟ قد خرجت وظيفة "متى" عن معناها الأصلي، لتصبح للتعجب، لا للسؤال والاستفهام.
إن "أيان" تدلّ نحويا على طلب التصور عن الزمان، وتفيد معنى "متى"، نحو قوله تعالى: «يَسْأَلُ أَيّانَ يَوْمُ القِيَامَةِª (القيامة 75: 6)، والمعنى: متى يوم القيامة. وفي رأي بعض النحويين أنّه يُستفهَم بها عن المستقبل لا الماضي، وتُستعمَل في الأزمنة التي تقع فيها الأمور العظام (ابن حيان الأندلسي، 1998م، ج 2، ص 542). وقد وردت "أيّان" مرة واحدة فقط في ديوان الشاعر، وذلك في قوله (من الطويل):
كَفَى حَزَناً أنْ لَا سِوَاكَ مُخَبِّراً |
|
أُسائلُهُ أيَّان هُمْ فَيُجِيْبُ |
(2003م، ص 222).
والبيت من قصيدة غزلية فيها كثير من الألم والشجن على محبوبته المفارقة له. والخطاب موجّه لبرق الحمى، فليس هناك من يسأله عن محبوبته التي تسكن نجداً إلا هذا البرق. و"أيّان" هنا لا تدلّ على الزمان، بل لها معنى آخر هنا هو التفجع.
وتفيد "أي" الاستفهام لطلب التصور عن بعض ما تُضاف إليه، ويُستفهَم بها عن الآدميين وغير الآدميين، كما يُستفهم بها عن شيء هي بعضه. لقد وردت "أي" في ديوان الحاجري، في مواضع قليلة لم تتجاوز 4 مرة، ومما قال (من الخفيف):
أيُّ شَيءٍ أَلَذُّ مِنْ صَوْتِ شادٍ |
|
حَسَنِ الوَجْهِ لَا أَمَلُّ سَمَاعهْ |
(المصدر نفسه، ص 86).
والشاعر هنا يصف مجلس الغناء، حيث تتبادل كؤوس العشق والهوى مع ضروب من اللهو والخلاعة، فيبدي إعجابه بالمغنّي الذي يطربهم بصوته الحسن الجميل. فالشاعر هنا لا يسأل، ولا يتوقّع جواباً من مخاطبه، بل يبدي الإعجاب من جمال صوت المغنّي؛ وبذلك تشير الأداة "أي" إلى معنى بلاغي أدّى فيه ما يبتغيه من المعنى، كما أشار إلى نفس المعنى في قوله (من الطويل):
أيُّ شَيءٍ أَلَذُّ مِنْ صَوْتِ شادٍ |
|
حَسَنِ الوَجْهِ لَا أَمَلُّ سَمَاعهْ |
بِأَيِّ لِسَانٍ أُبْلِغُ الوصفَ فيكُمُ |
|
وَلَيْسَ لكُمْ في العَالَمِيْنَ ضُرُوبُ |
تَجَاوَزْتُمو حَدَّ الجَمَالِ فَسَائِرُ الـ |
|
ـمَحَاسِنِ جُزْءٌ منكمُ وَنَصِيْبُ |
(المصدر نفسه، ص 230).
ونقل سيبويه عن أستاذه الخليل أنّ "أي" إذا لم تكن للاستفهام، فإنّها تفيد التعجب (سيبويه، د.ت، ج 2، ص 407)، ويوجد هذا المعنى في قوله (من الخفيف):
قَاتِلِيْ لَا بَرِئْتَ من أوزاري |
|
أيُّ نارٍ لولا خُدُودُك ناري |
(المصدر نفسه، ص 136).
فهنا يخاطب محبوبته التي قتلته بجمالها الأخاذ، وهو يتعجّب من حسنها وحلاوتها، ولا ينتظر جواباً ولا يتوقعه.
4ـ4. النداء وأدواته في ديوان الحاجري
النداء هو الصوت، والنّدى بُعد الصّوت، ورجل ندي الصّوت: بعيده (ابن منظور، د.ت، ج 6، ص 348)، وأصل الصوت من الندى، أي: الرطوبة، يقال: صوت ندي: رفيع، واستعارة النداء للصوت من حيث أنّ من تكثر رطوبة فمه، حسن كلامه، والنداء هو رفع الصّوت وظهوره. والنداء اصطلاحاً هو التصويت بالمنادى، ليعطف على المنادي. فالنداء هو رفع الصوت عالياً، لينتبه المدعو، ويُقْبِلَ عليك بعد أن تذكر اسمه أو صفة من صفاته (ابن يعيش، 2001م، ج 8، ص 118).
فهو «طلب الإقبال بحرف نائب عن كلمة أدعو» (عوني، 1946م، ص 66). وهو عند سيبويه تنبيه؛ إذ ذكر حروف النداء تحت باب سمّاه «الحروف التي ينبّه بها المدعو» (سيبويه، د.ت، ج 2، ص 229)، ومن النحويين من رأى أنّ النداء في اللغة: الدعاء؛ وفي الاصطلاح: طلب الإقبال (الصبان، د.ت، ج 3، ص 134). وقد جاء في حاشية الخضري: إنّ النداء هو طلب الإقبال بـ"يا" أو إحدى أخواتها؛ والمراد بالإقبال مطلق الإجابة (د.ت، ج 2، ص 71). وقد عرّفه ابن السّراج بقوله: تنبيه المدعو ليقبل عليك (1985م، ج 1، ص 41).
4ـ4ـ1. النداء بأداة "يا"
عند استقراء قصائد الديوان، يُلحَظ أنّ الحاجري استعمل "يا" في 211 موضعاً. واستعماله المكثّف هذا يشير إلى رغبة الشاعر في تنبيه المتلقّي على ما يريد أن يقوله. وهذا الحرف هو من أكثر أدوات النداء استعمالا. فهو في الأصل يُستخدم لمناداة البعيد لإمكانية مدّ الصوت بالألف، كما يشاء المتكلم؛ ومع كثرة استعماله، استُخدم أيضا لنداء متوسط البعد، ثم القريب توكيدا (المرادي، 1992م، ص 232). وقد استخدمها الحاجري لنداء البعيد في قوله (من الكامل):
يَا سَائِقَ الوَجْناءِ غَيْرَ مُقَصِّرٍ |
|
يَطْوِيْ المَفَاوِزَ مِنْ رُبا وَوِهَادِ |
(2003م، ص 53).
وهنا يخاطب سائق النوق البعيد عنه، وينبهه على ما يرغب في قوله، فهو يريد أن يوصل له التحايا إلى محبوبته البعيدة عنه؛ إذ يقول:
مَا لِي إِليْكَ سِوى التَّحِيَّةِ حاجَةٌ |
|
ي تَلْقَى سُعادَ بها ودارَ سُعادِ |
(المصدر نفسه).
وبذلك يتكشّف لنا أن أداة النداء هي لمخاطبة البعيد ومناداته، مفيدا من حرف المدّ الذي يؤدي وظيفة إطالة الصّوت وإرساله إلى مدى بعيد. ومن استخداماته لـ"يا" بغرض نداء القريب، قوله (من الطويل):
أُخَاطِبُهُ عِنْدَ التَّلَفُّتِ يَا رَشَا |
|
وَأَدْعُوْهُ بِالغُصْنِ الرَّطِيْبِ إِذَا مَشَى |
(المصدر نفسه، ص 91).
فمن سياق الكلام، تفيد "يا" هنا نداء القريب؛ لأنّ محبوب الشاعر غزال لطيف القدّ، وهو لا يسمّيه بالرّشا إلا عندما يتلّفت، وهذا يعني أنّ المحبوب قريب منه. والشاعر لا يريد هنا أن ينبّه محبوبته، بل يرغب أن يوصل إعجابه لها. وبذلك يفيد النداء غرض الإعجاب.
4ـ4ـ2. النداء بأداة "أيا"
وهذه الأداة شبيهة بـ"يا"، فيها ما يساعد على مدّ الصوت ورفعه، ويُنادى بها البعيد مسافةً أو حكماً (المخزومي، د.ت، ص 302). وتتألّف "أيا" من الهمزة "أ"، و"يا". والهمزة التي هي انفجار صوتي، يلفت الانتباه. و"يا" تُستعمل لنداء البعيد؛ وبذلك تكون "أيا" أبلغ تأثيراً من "يا"؛ ولذلك تُوظَّف للبعيد. ولا تُستخدم لتؤدّي معاني الاستغاثة، كما هو حال "يا"؛ لأنّه لا يُستغاث بالبعيد لعدم نفع ذلك (المخزومي، د.ت، ص 302).
وقد استعان الشاعر الحاجري بأداة أيا" في 18 موضعاً في ديوانه. ومن ذلك قوله (من الطويل):
أَيَا سَقَمِيْ أَعْدَاكَ رِقَّةُ خَصْرِهِ |
|
وَيَا جَلَدِي أَوْهَاكَ عُقدةُ بَنْدِهِ |
(2003م، ص 95).
لقد أنهك الحبّ الشاعر، بحيث يجعل محبوبته سبب علّته وألمه وسقمه. ويبدو أنّها بعيدة عنه؛ لذلك يستخدم "أيا" في ندائها. وقد أفاد النداء هنا طلب الرحمة. ومن استخداماته لهذه الأداة قوله (من الطويل):
أيا ليلُ قد أتلفتِ نفسي ترفّقي |
|
على أنَّ قتلَ النّفسِ فيكِ افتخارها |
(المصدر نفسه، ص 119).
في مطلع هذه القصيدة، يحكي الشاعر عن رحيل محبوبته التي سماها ليلى، ويستعطفها طالبا أن تكون رفيقة دربه، حتى وإن قُتل بسببها. ففي ذلك فخر له.
4ـ4ـ3. النداء بأداة "وا"
وهي أداة تنبيه تقضي الإطالة، ومدّ الصوت، وتستعمل في الندبة مع ألف الندبة التي تلحق المنادى في آخره أو هاء، ليكون ذلك عوناً على مدّ الصوت (المخزومي، د.ت، ص 302). و"وا" مختصة بباب الندبة؛ إذ لا يُنادى بها إلّا المندوب، أي المتفجّع عليه أو المتوجّع منه (الخويسكي، د.ت، ج 3، ص 197) ، نحو: وازيداه. وحكمها أن يُندَب بها البعيد لما الصوت بها (يعقوب، 1995م، ص 523).
وقد نادى الشّاعر مخاطبه بأداة "وا" في 16 موضعاً، من ذلك (من الوافر):
أَرَاقَ دَمِيْ وَكَان دَمِيْ |
|
حَرَامَا فواعجباه من حِلِّ الحَرَامِ |
(2003م،ص 154).
نحوياً، يُلحق بالمندوب ألف الندبة بشكل جوازي، مما يجعله مبنياً على الضمّ المقدّر، حيث يُمنع ظهور هذا الضمّ بسبب اشتغال المحلّ بالحركة المناسبة، وهي الفتحة التي أضيفت خصيصاً لأجل ألف الندبة. دلالياً تفيد الجملة الندائية هنا التعجب. فحبيبة الشاعر بصدّها وردها قتلته حزناً وألماً، والقتل شرعاً حرام؛ لذلك يستغرب منها كيف أحلّت لنفسها أن تفعل به ما فعلت. واضح أن الشاعر يتوجّع ويتفجّع، لكن الغرض هنا هو التّعجب.
4ـ4ـ4. الهمزة "أ"
وهي لنداء القريب بإجماع النحويين، ولا تستعمل في غيره أصلاً (ابن عصفور، 1998م، ج 2،ص 177). والهمزة بحركتها المقطوعة لا تعين على مدّ الصوت؛ ولذلك لا تُستعمَل لنداء القريب أو ما ينزل منزلته (المخزومي،1980م، ص 217). بإجراء استقرائي لأبيات الديوان، يُلحظ أنّ الشاعر قد استعمل الهمزة في 10 مواضع فقط. ومن ذلك قوله (من الطويل):
أَسَاكِنَ قَلْبِيْ لَا بُلِيْتَ بِوَجْدِهِ |
|
سَلَبْتَ الكَرَى فَامْنُنْ عَلَيَّ بِرَدِّهِ |
(2003م، ص 94).
تتألّف الجملة الندائية هنا من الهمزة، والمنادى مضاف. ويستعطف الشاعر محبوبته التي سلبت عينيه النوم، فصار أرقاً مرهقاً من الهوى والحب. لا يريد الحاجري هنا أن ينبه محبوبه بقدر ما يريد أن يستعطفها؛ وبذلك يفيد النداء وظيفة الاسترحام. ومن الأمثلة لاستعمال الهمزة قوله (من الطويل):
أأعاذلُ لو أنصفتني كنتَ عاذراً |
|
إلامَ وقد دبَّ العِذارُ بِقدِّهِ |
(المصدر نفسه، ص 94).
وحرف النداء هو الهمزة، والمنادى نكرة مقصودة لكل لائم يلوم الشاعر ويعاتبه. والشاعر يطلب من هذا العاذل أن يقلل من عذله، ويخفّف لومه، ويعذره، ويرى هذه المحبوبة التي تعلّق قلب الشاعر بحبها. إنّ الحاجري يريد هنا أن يلوم لائمه على فعله، وبذلك يكون غرض النداء هو اللوم.
4ـ4ـ5. النداء من غير استعمال أداة
يأتي النداء بغير أداة النداء، للدلالة على قرب المنادى من قلب الشاعر، ويخرج عن غير معناه الأصلي إلى معانٍ بلاغيّة أخرى، تفهم من السياق والجوّ الشعوري المسيطر على الموقف. ومن هذه الأغراض هو إظهار الألم أو الحب أو العتاب أو الحسرة أو الأسى أو التمني أو غيرها. ومن الجدير قوله إنّه لا يُقدّر عند حذف أداة النداء في الجملة الندائيّة سوى "يا". ومن أمثلة ذلك في الديوان قوله (من الكامل):
أَحْبَابَنَا عُودُوا إِلَى عَهدِ الصِّبَا |
|
وَعِدُوا بِوَصْلِكُمُ المُحِبِّ المُبْتَلَى |
(المصدر نفسه، ص 71).
فهنا حُذِفَت الأداة التي هي حكماً "يا". ويفيد النداء هنا معنى الرجاء. فالشاعر يرجو أن أن يعود أحبابه إليه، ويعاودوا وصله، وهو الحبيب المبتلى المولّه العاشق.
4ـ5. التمني وأدواته في ديوان الحاجري
إن التمنّي هو طلب حصول الشيء على سبيل المحبّة (أبو موسى، 1997م، ص 199)، أو هو طلب ما لا طمع فيه أو ما فيه عسر (ابن هشام، 1378ﻫ، ج 1، ص 294)، أو هو توقّع أمر محبوب في المستقبل (العلوي، 1914م، ج 3، ص 160). وقول تعالى: «أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّىª (النجم 53: 24)، ويقول: «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ! وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْª (الجمعة 62: 6 ـ 7).
إنّ الأمنية هي الصورة الحاصلة في النفس من تمنّي الشيء (الراغب الأصفهاني، د.ت، ص 475 ـ 476). والتمني تقدير شيء في النفس، وتصويره فيها، وذلك يكون عن تخمين وظنّ، ويكون عن رؤية وبناء على أصل؛ لكن لما كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك. فأكثر التمنّي تصوّر ما لا حقيقة له. إنّ التمني هو طلب أمر محبوب لا يُرجى حصوله، إمّا لكونه مستحيلاً، والإنسان كثيراً ما يحبّ المستحيل، ويطلبه، وإمّا لكونه ممكناً غير مطموع في نيله. أمّا التمني المستحيل، فقوله تعالى على لسان مريم: «فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّاª (مريم 19: 23). فالسيّدة مريم تتمنّى أن تكون قد ماتت من سنين، وصارت في عداد المنسيين، وذلك عندما جاءها المخاض، وخافت من تقوّل الناس عليها، وهذا التمنّي مستحيل الوقوع. أمّا التمني الممكن ولکن البعيد، فهو قوله تعالى: «يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوْتِيَ قَارُونُª (القصص 28: 79). فالتمنّي هنا ممكن وجائز الوقوع؛ لكنّه بعيد المنال والتحقّق.
ورد أسلوب التمني في ديوان الحاجري في مواضع غير قليلة مشتملة على أدوات التمني جميعها. وأولها "ليت" التي وقعت 15 مرةً. ومن ذلك قوله (من الطويل):
فَلَيْتَكُمُ عَدْلٌ وَدَهْرِيَ جَائرٌ |
|
وَلَيْتَكُمُ سِلْمٌ وكُلُّ الورى حَرْبُ |
(2003م، ص 189).
إنّ ما يريده الشاعر من العدل والسلام بينه وبين محبوبته مستحيل الوقوع، بسبب صدّها وردّها. ومن هنا، أتى هذا التوظيف لـ"ليت" التي تعين الحاجري على تحديد المعنى وتوجيهه. وكثيراً ما تدخل أداة "يا" على "ليت". ومن ذلك قول الشاعر (من الطويل):
ويَا ليتَ لا جَاوَزْتُ أرضاً تَحُلُّها |
|
فَأَحْظَى بِمَا يَحْظَى من القُرْبِ جارُهَا |
(المصدر نفسه، ص 119).
ودخول "يا" على ما ليس بمنادى، كـ"ليت" هنا، هو محل خلاف بين النحويين: أتكون "يا" للنداء أم أنّها مجد أداة للتنبيه. ومن آرائهم أنّه إذا جاء بعد حرف النداء "يا" حرفُ التمنّي "ليت" أو ما يشبهه، فالمنادى محذوف (ابن هشام، 1378ﻫ، ج 6، ص 533). ورأى الفارسي أنّ "يا" هنا للتنبيه، لا للنداء (ابن خالويه، 1971م، ج 3، ص 47 - 48). فالشاعر هنا يتمنّى ألّا يترك أرضاً هي أرضها، ليحظى رؤيتها، والقرب منها. وترد "ليت" في تركيب معروف هو "ليت شعري".
ومن أدوات التمني التي وظّفها الشاعر هي أداة "ألا". فقد استحضرها الشاعر في 9 مواقع، قد أفادت فيها التمنّي بطلب إيقاع الفعل بحثٍّ. ومن ذلك قوله (من الوافر):
ألا يَا مُمَرضِي بِالهِجرِ عُدْني |
|
فَما لِي غَير قُربِك مِن عِلاجِ |
(2003م، ص 281).
فالشاعر هنا يتمنى أن يكفّ محبوبه عن الهجر، ويسعى نحو وصاله. فتفيد هنا "ألا" الحثّ على القيام بفعل الوعد. وكذلك قوله (من الطويل):
ألا قُل لِرُكنِ الدِينِ ذي الفَضلِ |
|
والحِجا مقالة غيرانٍ عَليه إذا زلّا |
(المصدر نفسه، ص 306).
فهنا يحضّه على أن يقول لركن الدين. فتفيد "ألا" هنا الطلب والحثّ والتمني بإيقاع الفعل.
أمّا استخدام "لو" في التمني، فقد تمّ في 29 موضعاً. والغرض منه الإشعار بعزّة المتمني وقدرته؛ لأنّ المتكلّم يظهره في صورة الممنوع، فلو تدلّ بأصل وضعها على امتناع الجواب لامتناع الشرط (عتيق، 2003م، ص 113). وقد اتفق البلاغيون والنحويون على وظيفة "لو" في التمني، ودللوا على ذلك نصب الفعل المضارع في جوابها.
وقد وردت "لو" في مواضع كثيرة في ديوان الحاجري، منها قوله (من الطويل):
أَعَاذِلُ لَوْ أَنْصَفْتَنِي كُنْتَ عَاذِرَاً |
|
إِلَامَ وَقَدْ دَبَّ العِذارُ بِقدِّهِ |
(المصدر نفسه، ص 94).
يبدأ الحاجري بيته بنداء عاذله، ويطلب منه الإنصاف والعدل؛ لأنّه لو أنصفه لعذره. هنا، يُستخدم "لو" كأداة للتمني، حيث يعبر عن رغبته في إيجاد الأسباب والأعذار لنفسه، مما يجعله يتوقف عن إلقاء العتب واللوم. ومن النماذج أيضاً قوله (من الكامل):
مَاذَا عَلَى الأيَّامِ لَوْ أَخَذَتْ لنَا |
|
يَومَاً مِن البَيْنِ المُشِتِّ أمانا |
(المصدر نفسه، ص 193).
البيت جزء من قصيدة، يعبّر فيها الشاعر عن مشاعر اللوم والعتاب تجاه محبوبته التي خالفت وعودها، وهجرته. يبث الحاجري ألمه شعراً، متوسلاً إليها؛ علّها تعود إلى ما كانت عليه من وفاء ومحبة. وفي هذا البيت، يعبر عن أمله في أن تعود المياه إلى مجاريها، ليعيشا قريبين ومتآلفين مرة أخرى. يبرز الفرق بين التمني بـ"لو" والتمني بـ"ليت"، في كون الأولى تشير إلى شيء، يتمنى الشاعر حدوثه، رغم إدراكه صعوبة أو استحالة ذلك، وهو ما يمكن استنتاجه من سياق البيت الشعري.
الخاتمة
ـ اختلفت أنواع الأساليب في شعر الحاجري؛ إذ وظّف على سبيل المثال أنواع الأمر كلها، ومعظم أدوات الاستفهام، وأشكال التمني. فقد أدّى هذا التلوّن إلى تنوّع في التعبير، وأنتج دلالات مختلفة، ووجّه المعنى إلى حيث يتغياه الشاعر.
ـ إنّ أکثر المعانی والأغراض الثانویة الموجودة في دیوان الشاعر هي الالتماس، والتمني، والاسترحام، والتعجب، والتوجيه، وغير ذلك.
ـ شكّل أسلوب الأمر في ديوان الشاعر نسبة عاليةً، فجاء في المرتبة الثانية من جهة التردد، واعتمد بالدرجة الأولى في تأدية وظيفته على صيغة "افعل" التي وردت أكثر من 171 مرةً. وجاء المأمور مخاطباً مفرداً ومثنى وجمعاً. والضمير المتصل ببنية الفعل يدل على عدد الفاعل ونوعه.
ـ استعان الشاعر بلام الأمر مع الفعل المضارع، أي على شكل "ليفعل" في موضعين فقط، واعتمد على المصدر النائب عن فعل الأمر في 4 مواضع، واستند إلى اسم فعل الأمر في 9 مواضع، لتأدية وظيفة الأمر.
ـ وظّف الشاعر أسلوب الأمر التماساً أو إرشاداً أو استرحاماً، وكانت أكثر الدلالات المقصودة.
ـ ورد أسلوب النهي قليلاً مقارنةً مع الأساليب الطلبية الأخرى. وقد أنجز الشاعر وظائف مجازية مختلفة، بالاستناد إلى هذا الأسلوب، كالالتماس والإرشاد والتوبيخ وغير ذلك.
ـ للاستفهام أهمية في شعر الشاعر. فهو أكثر الأساليب الإنشائية ظهوراً ووفاءً بمطالب السياق وتنوّع المواقف. وقد كَثُرَ ورود هذا الأسلوب بحروفه وأسمائه المختلفة. فوردت كل أداة عدّة مرات. فأسهم ذلك في تحقيق الترابط الدلالي بين الأبيات. وقد أحسن الحاجري توظيفه، وفقاً للحالة النفسية التي يعيشها. وقد ظهر الاستفهام كمكوّن رئيس من مكوّنات القصيدة. فتكاد لا تخلو قصيدة من ذكر أداة أو أكثر من أدوات الاستفهام، مما قد أعطى تنوّعاً في الأسئلة منتجاً بذلك دلالات مختلفة تمثّل مقصوده.
ـ انزاحت أدوات الاستفهام عن وظيفتها الأساسيّة الممثلة في الاستفسار والاستفهام، لتنجز وظائف لغويّة أخرى. فاستعان الشاعر بها ليتعجب ويتمنّى، ويحث، ويقرّر، وينكر، ويوبّخ، ويهدّد، ويعرض، ويستنكر، وغير ذلك.
ـ اشتمل ديوان الحاجري على تباين شاسع في توظيف أدوات النداء. فبلغ عدد المواضع التي استخدمت فيها "يا" 211 موضعاً، كأعلى حد، وأقل حد كان في استعمال "الهمزة" التي نادى بواسطتها في 10 مواقع. ولم يستعن مطلقاً بـ"هيا" أو "أي".
ـ إنّ استعانة الشاعر بأداة "يا" بكثرة دليل على قوّته وشاعريته. فالحاجري بهذا التأويل الأسلوبي ينادي بإيقاعه الندائي هذا، ليُبلِّغَ المتلقّي ما في قلبه من تأوهات، ويعبّر عن بركان متأجج من الآهات المنبعثة من قلب مكلوم، وصدر مهموم على فراق محبوبته الذي حكى عنه في كل قصيدة تقريباً.
ـ نادى الشاعر في قصائده محبوبته بالدرجة الأولى، ونادى أصحابه أو عناصر الطبيعة، وكلّ ذلك ليوصل ألمه وحزنه وشجنه، علّ المحبوبة ترق، فتعود.
ـ إنّ السمة الغالبة على الجملة الندائية هي الطول، وهذا ینسجم مع طبيعة المنادى والموضوع؛ لأنّ التغزّل بالمحبوب أو مدح رجالات الدولة والجيش أو حتّى هجاء الأعداء، محاور رئيسة للنداء. يفضّل الشاعر أداة "يا" التي شكّلت أنموذجاً أسلوبيّاً، قد نادى به الحبيب والعدو، والقريب والبعيد.
ـ وظّف الشاعر أسلوب التمني في 68 موضعاً. ومن خلال استقراء القصائد أن "ليت" هو حرف التمنّي الرئيس الذي قد استعمله الشاعر في مواضع قليلة مقارنةً بالأحرف الأخرى، كـ"هل"، و"لو".
ـ يعود سبب توظيف "هل" و"لو" في التمني إلى الحالة النفسية التي يعيشها الشاعر من الشوق والوله وصدّ المحبوبة وأمل اللقاء. فاستعان الشاعر بالأدوات الأخرى التي تخرج التمني مجازاً.
ـ أوضح أسلوب التمني الذي اعتمده الشاعر، التعلق الروحي بالمحبوبة. فأظهر هذا الأسلوب شكواه من الفراق، والبعد، وألمه من صدّ المحبوبة ورغباته أن ينتهي هذا كله، فتعود المحبوبة إليه. لقد ساعد هذا الأسلوب على إظهار العواطف الصادقة التي تعذّب صاحبها، دون أن تنتج له لذّة ماديّة حسيّة، بل فقط لوعة وألم وحرقة.
ـ لقد استطاعت الأساليب الإنشائية أن تمنح الحاجري قدرة تعبيرية، هيأت له مجالاً واسعاً يؤدّي أفكاره، ويوصل مشاعره للمحبوبة أولاً، ولمخاطبه ثانياً. وقد أبرزت هذه الأساليب شاعرية الشاعر وقدرته وقوّته وفطانته، فأنجز بها ما يريد قوله، فأشعر وأبان وأوضح وأفصح.
التوصیات والمقترحات:
نظرا لقلة الدراسات التي تناولت أشعار الحاجري، ندعو الباحثین إلى دراسة ما یلي:
ـ دراسة دیوان الحاجري ومسائله البلاغیة وعدم الاکتفاء بالدراسات السابقة؛ لأن البلاغة من أعظم العلوم وأهمها. فهو المفتاح لفهم الشعر الحدیث والقدیم والمصلح، لما فسد من النقد السلیم.
ـ الهجویات والسجنیات في أشعار الحاجري.
ـ التصوف في شعر الحاجري.
ـ استدعاء الشخصیات التراثیة والأمکنة المقدسة في أشعاره.