نوع المستند : المقالة البحثیة
المؤلفون
1 أستاذ مشارك في قسم اللغة العربیة وآدابها بجامعة سمنان، سمنان، إیران
2 طالبة الدکتوراه في قسم اللغة العربیة وآدابها بجامعة سمنان، سمنان، إیران
المستخلص
الكلمات الرئيسية
عنوان المقالة [English]
المؤلفون [English]
The contemporary poetry has benefited the arrays and interpretations that express the poet's feelings according to the political and social indicators that are experienced. Therefore, the reader needs to recognize similar and different in-text communications, such as repetition and association. The purpose of association is to provide a kind of methodical and special connection between words. Some examples are contradiction, part to whole, whole to part, general to specific, specific to general, logical course, and substitution.
Contradiction as a lexical link expresses a kind of internal connection between the components of a text so that by stating the meaning of a word or a sentence, its opposite meaning immediately comes to mind. The reason for using this artistic tool in contemporary poetry is the existence of contradictions in the surrounding areas and events that have taken place, including wars and natural disasters, which contain different contradictions like death and life, defeat and victory, sadness and happiness, crying and laughing, etc.
Ghada al-Samman, one of the Syrian female poets, has significantly used this artistic phenomenon in her poems because of the existence of contradictions in the individual, social, and political lives, her different opinions in the field of women's freedom and equal rights for men and women in a patriarchal society, and the existence of fanatical and traditional wives.
A descriptive-analytical method was used in the present study to examine the contradiction technique employed in "the Collection of Nostalgia Letters to Yasmin” by Ghada al-Samman. The results show the following:
- Contradiction in Ghada Al-Samman’s poetry reflects issues such as missing the homeland, love and hate, death and another birth, false friendship with enemies, a fake war with friends, crying and laughing, Western culture and Eastern culture, and many other beautiful concepts.
- Contradiction in nouns has created a contradictory structure in the poetic text. In other words, the use of contrasting nouns has been effective to increase the cohesion of the text.
- Contradiction in verbs has created dynamism in the poetic text as well as the emergence of contradictory concepts resulting in increasing the semantic link of the text. This implies a kind of intellectual dynamics originating from the poet’s indirect expression.
- Various contradictions in sentence composition express a kind of balance between the words of a phrase. These contrasting combinations has added unpredictable concepts to the texture and has created an unexpected perspective for the text reader.
- Contradiction in images has given the text new and innovative concepts with two arrays of simile and animation through the creation of vivid and artistic images. This phenomenon as a dynamic tool has complemented the unspoken concepts.
الكلمات الرئيسية [English]
ظاهرة الاختلاف والتضاد ظاهرة طبيعية في العالم، کالتضاد الموجود بين الناس، والحیوانات، والنباتات، والألوان. هذا التضاد في الکون یدل علی التنوع بین الکائنات، کما يؤدي عدم الاختلاف إلی الخلط والالتباس بينها. وقد تجلت هذه الظاهرة في الشعر العربي، وخاصة في الشعر الحديث، بما فیها من الجمال والتأثیر في المتلقي. ولعل الإكثار من توظيفها في الشعر الحديث، ولاسيما قصيدة النثر، یدل علی التضاد الموجود في الحیاة الحدیثة والأحداث التي وقعت فیها کالحروب والکوارث؛ بما فیها من التناقضات بین الحیاة والموت، والهزیمة والانتصار، والثورة والانقلاب، والحزن والفرح، والبکاء والضحك و....
وتأثرت الشاعرة السوریة، غادة السمان، ببعض التناقضات الفردية، والاجتماعية والسياسية في حياتها الشعرية؛ بما من آرائها حول حرية المرأة والمناداة بالتسوية بين حقوقها والرجل في المجتمع الذكوري من جانب، وزوجها المتزمت المترعرع في عائلة تقليدية من جانب آخر...، فظهرت هذه الآراء في شعرها بأشكال متنوعة.
وکثرة الکلمات والتراکیب والتصاویر المتضادة فيه دفعت بنا إلی دراسة هذه الظاهرة في ديوانها رسائل الحنین إلی الیاسمین تبلغ نحو خمس وثمانين قصيدة، والذي تعبر فیه الشاعرة عن عواطفها النسویة وتتکلم عن ذکریات دمشق وهجرتها إلی باریس وعن آلامها وأوجاعها إزاء مشاکل الحیاة ومصائبها الغزيرة.
1ـ1. أسئلة البحث
یرمي هذا البحث إلی الإجابة عن هذه الأسئلة:
ـ ما ملامح التضاد في ديوان رسائل الحنين إلى الياسمين لغادة السمان؟
ـ ما دور التضاد وأنواعه في إحداث اللغز اللغوية وإيصال المعنى في هذا الديوان؟
ـ ما دلالات التضاد في ديوان رسائل الحنين إلى الياسمين؟
ـ کیف أسهم التضاد في الترابط النصي في هذا الديوان؟
1ـ2. منهج البحث
وقد اعتمدنا في هذه الدراسة علی المنهج الوصفي ـ التحلیلي، عاكفين على تحدید ظاهرة التضاد ووصفها في النصوص المختارة، لفهم النص الشعري المعاصر، وما فيه من الإبداع. وبما أن الموضوع یرتبط بالمنهج اللغوي واللسانیات الحدیثة، فرکزنا علی دراسة مقومات النص والکشف عن خصائصه اللغوية والتعبيرية.
1ـ3. خلفیة البحث
سبقت هذه الدراسة، دراسات تناولت النصوص الشعریة لغادة السمان، منها ما يلي:
مقالة الانزیاح الاستبدالي والترکیبي في شعر غادة السمان: دیوان أشهد عکس الریح، لإیثار شوقي (2014م)؛ درست هذه المقالة الانزیاح اللغوي، وانزیاح النعوت، والاستعارة التنافریة، والانزیاح الترکیبي، وأشارت في الاستعارة التنافریة إشارة مختصرة إلی التناقض في شعر غادة السمان.
ورسالة شعریة الخطاب في قصائد غادة السمان: دراسة في المکنونات والخصائص الجمالیة، لفتیحة العقاب (2016م)؛ لقد درست المؤلفة في مبحث المفارقة من الفصل الثالث، ظاهرة التضاد والتناقض في شعر غادة السمان من منظور مفارقة التضاد في الكلمة وفي التركيب، حيث إنها قد عالجت هذه الظاهرة في عدة دواوين الشاعرة ، إلا أنها لم تعالج قضیة التضاد وأقسامها ودلالتها ودورها في التماسك النصي، ونلاحظ أنها لم تجعل فرقا بين المفارقة والتضاد، بما أن التضاد يعد إحدى أدوات المفارقة، مما يدل على أنه يوجد في الرسالة نوع من الفوضوية الفكرية في انقسام المباحث حول المفارقة وأنواعها.
كذلك درست الباحثة لمیاء یاسین حمزة (2015م) في مقالة الضوء والظل في شعر غادة السمان، توظیف التضاد في شعر غادة السمان، ولکن من خلال مفاهیم الضوء والظل؛ بأن لهما الدلالة الرمزیة والإیحائیة وحاولت المؤلفة أن تکشف عن مدلولیهما وکالدراستین السابقتین، فما أشير إلی دور التضاد في الترابط النصي.
هذا، وقد حاولنا دراسة ظاهرة التضاد ودورها في انسجام النص الشعري في ديوان رسائل الحنین إلی الیاسمین لغادة السمان، وذلك من خلال ثلاثة محاور: 1ـ التضاد اللفظي؛ 2ـ التضاد التأويلي؛ 3ـ التضاد التصويري.
الترابط النصي أو استمراریة النص یدل علی العلاقة التي تتجاوز الجملة، بوصفها وحدة لغویة کبری لتصل إلی وحدة أکبر متمثلة في النص؛ و«الترابط النصي اللغوي أو المعجمي من أهم مقومات النص؛ إذ بدونه یأتي النص مفك الأوصال، فیشوب الغموض بین أجزائه وینعکس سلبا علی دلالته (الصبيحي، د.ت، ص 129). «فالنص یتسم علی أعظم تقدیر بالترابطات[1]، أي بإتاحة[2] للترابط، لا تنقطع فیما بین العناصر الواردة من النظم اللغویة المساهمة» (دي بوجراند، 1998م، ص 99).
فالترابط النصي عبارة عن العملیة التي بواسطتها تتصل جمل النص من أجل إضافة علاقة دلالیة بینها. من أهم أدوات هذه العملیة، يکون الاتساق المعجمي بشقیه التکرار والتضام. التکرار علاقة تدل علی تکرار عنصر معجمي بعینه أو بمرادفه أو عنصر مطلق أو عام شامل له؛ والتضام[3] علاقة تتم عبر توارد زوج من الکلمات ترتبط بعلاقة معجمیة، کالتضاد، والجزئیة، والکلیة، والعموم والخصوص، والترتیب، والمجاورة.
فالتضاد هو أحد عناصر المصاحبة اللغویة التي تلعب دورا هاما في التماسك النصي وتخلق عالما متشابکا من العلاقات التي تحتضنها اللغة، ولاسیما اللغة الشعریة؛ و«یقصد به أن تؤدي اللفظة الواحدة معنیین مختلفین متضادین تنبئ کل لفظة عن المعنی الذي تحتها وتدل علیه وتوضح تأویله» (السجستاني، 1991م، ص 75)؛ «ویعد نوعا من العلاقة التلازمیة بین المعاني، وربما کانت تلك العلاقة أقرب إلی الذهن من أي علاقة أخری، فبمجرد ذکر معنی من المعاني، یستدعى المعنی المضاد إلی الذهن، ولاسیما ما بین الألوان، فذکر البیاض یستحضر في الذهن السواد» (داود، 2001م، ص 193).
و«بسبب وجود الملازمة والمناسبة في معنى التضاد، يعد أحد أدوات تداعي المعاني ونقل المفاهيم» (همايى، 1376ﻫ.ش، ص 274). وهذه العلاقة التلازمية تعد ضربا من التناسب والوحدة؛ فمن جوف هذه التناسبات، يحدث التضاد في النص كسمة لغوية؛ إذ إنه «يعتبر ضرب من الموازنة؛ موازنة الأشياء وجوهرها في توجه مخالف؛ وهذه الموازنة تؤدي إلى المنهج المعرفي؛ وذهن الإنسان في التعامل مع المفاهيم المستحدثة، يقوم بقياسها مع النتائج السابقة؛ وبهذا الطريق وبالتعمق في المتشابهات والمتناسبات، يمكنه الحصول على ماهية الأشياء؛ وبوساطة إجراء الحكم التساوي بين الظاهرة المستحدثة والظواهر المتضادة، يدرك الواقع الذاتي لشيء ما» (حصاركى وگذشتى، 1390ﻫ.ش، ص 108).
ومن هنا، يتبين لنا دور التضاد في التماسك النصي؛ بتعبير آخر، التضاد «يعد شبكة من العلاقات اللامرئية في النص؛ والذي يقوي اللغة الشعرية وبنيتها الداخلية؛ كنموذج عندما يذكر الشاعر الذرة والشمس، والقطرة والبحر، والعاشق والمعشوق في بيت واحد؛ تتحول هذه المفردات إلى مرآة متقابلة تعكس في ذاتها صور بعضها البعض» (مشاهرىفرد وآخرون، 1395ﻫ.ش، ص 74). کما أنه یعد من ظواهر التخالف والتعاکس اللغوي التي یسهم في الترابط النصي سهما کبیرا، وله وظیفة في تحقیق التماسك بین المتضادین إما شکلیا وإما دلالیا؛ «وله قیمة داخل السیاق النصي؛ إذ تشکل بنیة التضاد خلخلة في بنیة اللغة التي تصبح قائمة علی المخالفة والمصادمة؛ ولکن هذه الخلخلة کفیلة بإیقاظ القارئ واستنفاره، کما إنها تقود إلی الیقظة لمواجهة مثل هذه الظاهرة الأسلوبیة بشکل یحقّق فیها اتصالا مع النص المدروس» (ربابعة، 2000م، ص 150).
وهذا یعني وجود العلاقة التواصلیة بین منشئ النص والمتلقي من خلال قائمة من العناصر المتضادة؛ «وقیمة التضاد الأسلوبیة تکمن في نظم العلاقات الذي یقیمه بین العنصرین المتقابلین، فلن یکون له أي تأثیر، ما لم یتداع في توال لغوي؛ وبعبارة أخری، فإن عملیات التضاد الأسلوبیة تخلق بنیة مثلها في تلك التقابلات المثمرة في اللغة» (فضل، 1998م، ص 225). وهذا يمکن أن یعبر عنها بالنظام التقابلي؛ «ویری البلاغیون أن استخدام التضاد هو غایة جمالیة، ومطلب فني، ذلك أن محاولة الشاعر الجمع بین الأضداد في المعنی یضفي جمالا خاصا علی التعبیر، ویوفر تناسبا فنیا بین أجزائه وتناسقا وانسجاما وارتباطا بین الألفاظ والعبارات والصور، بحیث یبدو التعبیر مثل الصورة المکتملة في أجزائها المتناسقة في ألوانها، وهکذا یبدو التضاد عنصرا جوهریا من عناصر الشعر وخصیصة من الخصائص التي لا یمکن الاستغناء عنها» (الوتوات، د.ت، ص 261).
ومن هنا، یتبین لنا دور التضاد الفاعل في خلق التماسك النصي وإضفاء المعاني المستجدة علی النص. «فالتضاد یجعل من الشعر مرآة للاحتمالات الممکنة لتشکل القول الشعري، أي إنه یکون عنصرا تشکیلیا یخرق الأسالیب المکررة، ویمنح للشاعر فرصة لإنتاج النص بطرق وأسالیب مغایرة، وإذا تحقق للتضاد هذا الدور في تشکیل النص، یمکن له أن یظهر علی مستوى بنية اللغة الشعریة وعلی مستوى الرؤیا وعلی مستوى موسیقي القصیدة البارزة والخفیة» (ناجي، 2016م، ص 24).
كما نواجه هذه الرؤية في النظرية البنيوية، فالبنيويون يرون أن «لمعرفة الأشياء، يجب أن التوجه نحو مبدأ التضاد، الليل والنهار، الحسن والقبح، الدميم والجميل، الأسود والأبيض ...، فلهذا لا بد البحث عن الأمور المتضادة في عمق بنية النص» (پارسینژاد، 1382ﻫ.ش، ص 35). وهذا القول يعني أن التضاد يستظهر في أصغر بنية للنص، أي الوحدات الصرفية، ويمتد إلى أكبر بنية والوحدات الكبرى، مثل: النظام الاسمي، والنظام الفعلي، والجمل والتراكيب. وهكذا يتم دوره في تزايد الانسجام النصي، وبالتالي المعاني المستحدثة.
التضاد اللفظي یعني التناقض بین لفظ ولفظ آخر. «فاللفظ هو الوسیلة إلی إدراك القیم الشعوریة في العمل الأدبي، بالإضافة إلی کونه الأداة التي ینتقل بها الشاعر من خلال تجاربه الفنیة، لیرسم ویشخص ویجسم المفردة الأدبیة» (الأسدي، 2013م، ص 36). ویعرف محمد الهادي الطرابلسي التضاد اللفظي بأنه «استعمال لفظین اثنین متضادین بحکم الوضع اللغوي، لا یشترك معهما في ذلك ثالث» (تامة، 2015م، ص: 31). وتتبین أهمیة التضاد بین اللفظین من خلال ما یحدثه من الآثار الجمالیة والدلالیة المطلوبة في ذهن قارئ النص وانفتاحه علی عالم ملون بالتناقضات عن طریق إدراکه بالسهولة مع النظرة العابرة إلی ألفاظ النص. وینقسم هذا النوع من التضاد إلی القسمین الرئیسين: التضاد بین المفردات بنوعيه الأسماء والأفعال؛ والتضاد بین التراکیب.
3ـ1. التضاد في الأسماء
هو التضاد الذي یقع في الأسماء ولا تدخل في معناه دلالة الأزمنة الثلاثة في الأفعال، منها الماضي، الحال والمستقبل، ولا یری فیه التجدد والتحرك والحیویة، بل الثبوت وترسخ المعنی وتحویله إلی الصفة الثابتة التي لا تتغیر، نحو: وَأنا في الوطنِ کنتُ أبکي شَوقاً لِلرحیلِ إلی المَنفی / وَها أنا الیومَ أبْکي / لأنّني حَقّقتُ أحْلامي (السمان، د.ت، ص 12). في هذا النموذج من قصیدة رسالة إلی دمشق مسقط قلبي، ورد التضاد بین الوطن والمنفی؛ والوطن في اللغة یعني مكان إقامة الإنسان، وبالتالي هو المکان الذي یأنس به، فإذا قام بهجره، یحزن ویحن إلیه؛ والمنفی المکان الذي ینفی إلیه ویطرد.
إن دققنا النظر، فتفرح الشاعرة بترك وطنها وتبکي بکاء الاشتیاق للرحیل إلی المنفی؛ ولهذا، نری مفارقة التضاد بین هاتین الکلمتین، لتصل الشاعرة عن طریقهما إلی المدلولین الحقیقیین، فالوطن = عدم الحریة، والمنفی = الحریة؛ إذ إن «هروبها من مجتمعها رغبة في التحرر ودخولها سجنا أکبر، وهو الغربة، وقبولها به، کل هاته هي دلالات نفسیة لمتناقضات مختلفة طبعت شعرها وتجسدت في عباراتها» (العقاب، 2015م، ص 407)؛ فهي ترید أن تکسر قیود الإسارة لتصل إلی الحریة، وتظن أنها تستطیع أن تحصل علیها في المنفی أو الغربة، رغم أن المنفی لیس مکانا للوصول إلی الحریة، فتشعر بالفراق وتتحسر فيه دائما، وتبکي بکاء المتوجع وتقول ساخرة: "أنا حققت أحلامي"؛ مع أنها لم تحقق «باریس لیست منفی ولیست وطني؛ ولکنها تغلي حضارة، وفیها أصوات کثیرة تحب الآخر وتدعمه. إنها بمعنی ما أحد أوطان القلب العاشق للحریة» (المصدر نفسه، ص 362).
فالشاعرة کعاشقة متیمة تعلو صوتها للتعبیر عن الحریة، وحتی إن لم تصل إلیها. والتضاد اللفظي خلق بنیة نصية تقابلیة ثابتة مرکبة من الوطن وما یرافقه من عدم الحریة والمساواة ومن المنفی وما یصاحبه من الحریة. ودیوان الشاعرة مليئ بهذا النوع من التضاد، أي التضاد بین الأسماء، کما نراه بین هذه الکلمات: "الصرخة والصمت"، و"الغائب والحاضر"، و"الحقیقة والوهم"، و"الحزن والسرور"، و"النور والظلمة"، و"السرّاء والضرّاء"، و"الأبیض والأسود"، و"الموت والحیاة"، و"الألفة والغربة"، والحب والکراهیة"، و"الشك والیقین".
وبذلك، هذه المعطیات المتضادة أثارت ومضة دلالیة لها علاقات إیقاعیة تتناغم مع حرکة النفس الداخلیة التي ترنو شوقا للوقوف علی المعنی الباطن الذي یولد المثیر ویحقق الاستجابة عند المتلقي (محمد، 2013م، ص 58). و«أطلق ریفایتر علی هذه الظاهرة اسم "الانصباب"، فقد تتجمع العناصر الناجمة عن الإجراءات الأسلوبیة، مما یجعل تأثیرها یعتمد علی التوافق بین الجوانب الدلالیة والصوتیة وتتراکم حتی تصل إلی نقطة محددة، بحیث یکون کل إجراء أسلوبي منها ـ علی استقلاله في ظاهر الأمر ـ جزءا من بنیة أکبر تمثل القوة التعبیریة التي تصبّ فیها جمیع الإجراءات المستخدمة» (فضل، 1998م، ص 230).
فإن التضاد قد نفذ في أعماق نفس الشاعرة وتحول إلی سمة ثابثة وظاهرة في شعرها، فعبّرت عنه لتسقي غلیلها النفسیة من الحزن أو الفرح، والحب أو الإکراه، والأمل أو الخیبة؛ «لأن التضاد له قدرة علی إثراء المعجم اللغوي وله مزیة أخری، أنه أنسب وسیلة لإیضاح معنی اللفظة ومبتغی الکاتب منها» (عبيد، 2015م، ص 227)؛ لهذا توظفه السمان في شعرها بالتنویع والکثافة للتعبیر عن هذه الحالات النفسیة بغیة تأثیرها في المتلقي: سَأظَلُّ أرْكُضُ لأنَّني عاشقُ المرأةِ المستحیلةِ / قَدْ أمْتَلِكُ ناطِحَة َسَحابٍ وَمَملِکَةَ ترابٍ / وَاللَّیْلَ والنَّهارَ (د.ت، ص 141).
و في قصيدة رسالة مفكسّة من رجل صريح، یتجلى التضاد الجمیل بین "ناطحة السحاب ومملکة تراب"، و"اللیل والنهار" في هذه السطور الشعریة. الشاعرة تشیر إلی التناقض الموجود بین ناطحة السحاب التي تدل علی الحضارة الغربیة والکذب وزخرفتها ومملکة التراب التي تدل علی الحضارة الشرقیة والصدق وسذاجتها، ثم يستمر هذا التناقض ويظهر في کلمتي "اللیل والنهار"، حیث تربط ناطحة السحاب باللیل والظلام، وبالتالي الخیبة والیأس، وتربط مملکة تراب بالنهار والضوء، وبالتالي الأمل والرجاء.
فهي تارة تمیل إلی ثقافة الغرب وتجذبها وتارة تمیل إلی وطنها وثقافة الشرق؛ وتقلق وتضطرب وتضلّ تجاه هذه التناقضات الروحیة. فوفقت الشاعرة عن طریق توظیف هذا النوع من التضاد في أن تعبر عن حالاتها الشعوریة تجاه ثقافتي الشرق والغرب؛ «لأن التضاد وسیلة تکتیکیة وأسلوب دینامیکي في بناء القصیدة، إذ إن الشاعر مضطر إلی محاکاة التوتر النفسي للإنسان، ککائن حيّ غیر مستقر السلوك ... فبواسطة التضاد أوقد الشاعر التوهج الشعوري والعاطفي في الکلمات» (الكبيسي، 1982م، ص 49). «وهذه هي علاقة التضاد التي تمیزها صور التقابل والتنافر والصراع والتجاذب والتوتر الناتج عن تناطح کتلتین أو نزعتین في الإنسانیة، وهو من أهم الوسائل المولدة لدینامیة النّص الصانعة لعالمه، ولعله ناتج عن ولوع الشاعر بالتنافر بین عناصر الصورة في الواقع، بحیث یکون الأثر النفسي لأحد طرفي الصورة مناقضاً لأثر الطرف الآخر» (هيمة، 1998م، ص 14).
كما نلاحظ في قصيدة أخرى معنونة برسالة من عاشقة عربية، الكلمات المتضادة في الأسماء، قد رصفتها الشاعرة متراصات:
كُلُنا عاشقاتٌ نحن مَعشَرُ النساءِ العربياتِ / مُشْتَعِلاتٌ بِالوَجْدِ وَالأشْواقِ المُسْتَحيلة / كُلُنا نَتَأجَّجُ شَوقا إلى ما لا نَدْريه / حتى قَبْلَ أنْ تَلْمَسُنا العَصا السِّحْريةِ لِلْمُراهِقَةِ / كَأنَّ عُمْرَنا رِحْلَةِ حُبٍّ بَيْنَ لَحْظَةِ وِلادِتِنا وَلَحْظَةِ وَأدِنا. / ثَمةٌ نِساءُ يُفَضِّلْنَ وَرَقَةَ الكِتْمانِ / أخرياتٌ يَلْعَبْنَ وَرَقَةَ الصِّدْقِ / وَيَشْقينَ بِها بِسَعادَة (د.ت، ص 23).
في هذه السطور الشعرية، هناك مفردات متضادات متلازمات في المعنى، مثل لحظة ولادة ولحظة وأد، ورقة الكتمان وورقة الصدق، كما تكمّل هذه المتضادات، الجملة التي أتت بها الشاعرة في نهاية السطر، أي: "يشقين بها بسعادة". والشاعرة في هذه الجملات تتكلم عن النساء اللائي يعشن في البلاد المهترئة والجو التقليدي الذي يسيطر هذا البلاد ويقيدهن. فالحرية ليست موجودة في هذه البلاد، كأنهن يحلمن به حلما مستحيلا، ومن فرط حبهن يتحسسنه في أمنياتهن طوال العيش في تراب الأرض؛ وفي نهاية المطاف، بعضهن يتحلين بالشجاعة والجرأة، فهن يحتجن على هذه الظروف القاسية رغم المصائب التي يتحملنها؛ ولهذا، يلعبن ورقة الصدق، وبعضهن يفضلن الصمت الأبدي فيها، ولهذا يلعبن ورقة الكتمان. وتزید من الإشاعات الدلالیة المتضادة بکلمات أخریات أخريات متضادة مثل العيش بالسعادة ولكن في ظل الشقاوة التي تكفل لهن الحرية لتکثف الانسجام النصي وتقوية مغزی النص؛ مؤملةٌ في إیصال رسالتها المکنونة إلی المتطلع ومن یغوص في قاع بنیتها الشعریة.
3ـ2. التضاد في الأفعال
هذا نوع من التضاد یدل علی الرسوم المتحرکة ودینامیة التصاویر المضادة؛ لأن «التباین الدلالي في الأفعال المتضادة یمتاز بالقلق، أي أن المعنی العمیق لا یرکن إلی الاستقرار» (محمد، 1998م، ص 62). وبهذا التنوع الدلالي والحرکي، بادرت الشاعرة بتوظیفه في سطورها الشعریة: حُبّكَ صَیفٌ وَشتاءٌ علی سَطحٍ واحدٍ، وَهذا یمُتِعُني / مَعَكَ رأسي في القُطبِ الشُمالي وَقَلبي في خَطِ الإستواءِ / وَداخلَ لحَظةٍ واحدةٍ أحبُّكَ وَأکْرِهُكَ في آن (د.ت، ص 123).
في هذه السطور الشعرية من قصیدة رسالة بالشیفرة، یتجلى التضاد الفعلي بین الکلمتين "أحبّك وأکرهك"؛ فصیغة الفعلین تکون صیغة المضارع التي تدل علی التجدد والحدوث، أیضا یشتد التضاد بالکلمات الأخری، أي "الرأس والقلب، والقطب الشمالي وخط الاستواء"؛ فالرأس بما یحتوي علی العقل، یدخل في القطب الشمالي ویصیر إلی شيء بارد بمنطقه، فهو لا یحب، بل یکره؛ والقلب بما یحتوي علی العاطفة والإحساس، یدخل في خط الإستواء ویصیر إلی شيء حار لا یکره، بل یحب مع وجود الکراهیة والنفور حوله. وهذه الکلمات تعین الشاعرة علی خلق تصاویر حیة ودینامیکیة لحب وکره معشوقها سويا. فالتضاد تضاد جمیل ویؤثر في نفس المتلقي: ثمة صباحاتٌ / أسْتَیقِظُ فیها / وَلا أعْرِفُ أیْنَ یَنتَهي رأسي وَتبَدأ وِسادَتي / أیْنَ یَنتَهي جِلدي وَتَبْدَأ مَلاءاتُ سَریري (المصدر نفسه، ص 129).
فیری التضاد الفعلي في هذه القصیدة رسالة من داخل حبة فستق، بین الفعلین "ینتهي وتبدأ"؛ فغالبا في نقطة بدء الأشیاء حرکة وسریان تجري وتستمر حتی نقطة الانتهاء؛ ولکن في هذه الأبیات، تختلف هذه القضیة، فیحصل التضاد بین انتهاء رأس، ثم بدء وسادة وانتهاء جلد، ثم بدء ملاءات السریر. فتری الحرکة التي تخالف السیر العادي؛ ولهذا أفکار الشاعرة تثیرنا وترغمنا أن نسأل أنفسنا: لماذا استخدمت الشاعرة هذا النوع من التضاد؟ أي، یمکن أن تدل التناقضات بهذا الطریق علی الاضطراب والتوتر الروحي والقلق الذي تعاني منه الشاعرة، وهي عکسته في شعرها.
ولعل انتهاء الرأس والجلد یدل علی انتهاء حیاتها بما فیها من الحزن؛ کما أن بدء الوسادة والملاءات ممکن أن یشیر إلی بدء الحیاة المثالیة التي تتمناها الشاعرة؛ ومن ثم هذه التناقضات تدل علی الجدلیة بین الموت والحیاة وولادة أخری؛ لأن «یظل معظم الشعر الحدیث في حرکة دائبة وراء تضاد الموت والحیاة مستمدا من معجم اللغة هذین المتقابلین لیغلف بهما رؤیته للحیاة، فالموت هو الحقیقة التي أشعلت ذهن الشعراء بکثیر من الدلالات التي تدور حوله» (عبد المطلب، 1995م، ص 151).
و«هنا یشعر القارئ بانتقال من حال إلی حال ثانیة یتراءی فیها الجمال والأمل والأفراح بین دوالیب الفزع والخوف والاکتئاب» (طاهرى وقرهخانى، د.ت، ص 100 ـ 101). فقد ساهم التضاد الموجود بین الفعلین المذکورین في تنشیط حرکة النص في البوح بمحتواه الدلالي، وهو اضطرابات نفسیة تشعر بها الشاعرة دائما؛ إذ «یمثل التضاد واحدا من الخیارات الأسلوبیة المعبّرة عن الحرکة» (سليمان، 1990م، ص 55). «ویکمن سر أسلوب التضاد في تهیئة المفاجأة أو خرق العادة بتصویر حرکة معینة في الانتقال من نقطة إلی أخری متضادها، وتوضح التوتر بینها» (أحمد، 2013م، ص 2281). وکذلك یری هذا النوع من التضاد بین الأفعال الأخری، مثل: "لم تنتحب وابتهجت"، و"تثرثر وتقول شیئاً حقیقیا"، و"تنتصر وتهزم"، و"تحیا وتمیت"، و"عقدت حلفاً ونکثت به"، و"ربحت وخسرتني" و....
وبهذا الطریق، یزید التضاد من حرکة النص التي تبحث عن المعاني العمیقة والمتباینة، وبالتالي المکتملة التي تساعد علی تغذي النص واستمراریة معانیه وتحویلها إلی الحلقات الدلالیة المتواصلة؛ «لأن بنیة التضاد نسق یتجاوز الإطار اللساني البسیط للجملة بوصفها وحدة جزئیة إلی أخذ النص ککل في الاعتبار، فترتبط بالمجال الفکري الذي یثیر الموقف العام داخل النص» (حسين، 2006م، ص 31). «والتضاد جعل النص متین السبك وکان رابط المکونات کلها وموجه الدلالة الأول، فجعل النص کیانا واحدا» (سليمان وخليل، 2018م، ص 400). بما أنه یرتبط اللاحق بالسابق وإثر هذا التراص والتلاصق، فیولد الحــبك النصي لتقویة فکرة ما وتخصیبها، نحو: مرة، تَکسّر قَلبي عَلی صُخورِك المُسَنَنَةِ / کأيّ نورسٍ مَسّتْه صاعقةٌ ... / فهَبطَ مِنْ غیمَته الوَردیة، / لیُنحتِ التماثیلَ لحُــبّك وَیُكسِرَها في آن (السمان، د.ت، ص 45).
وورد نوع آخر من التضاد الفعلي في قصيدة رسالة من امرأة تكره الأسرار؛ فيلاحظ في کلمتي "ینحت ویکسر" وبین النحت والکسر التضاد الحاد أو غیر المتدرج بسبب عدم ورود درجات فیهما؛ بعبارة أدق، نحن لا نستطیع أن نقول: النحت القلیل أو الکسر الکثیر ووقعت هاتان الکلمتان مرة واحدة. ولا یوجد بینهما خیار ثالث؛ إذ هاتان الکلمتان لا تقبلان التدریج. أما کما یفهم من اسم هذا التضاد، فوجود المتناقضات وشدتها فیه، مما يدل علی شدة حالة الحزن الروحیة التي تهیمن علی الشاعرة، وهي تعبر عنها بهذه الکلمات.
ونحت تماثیل الحب وکسرها من قبل نورس في آنٍ يعكس الصور الغریبة وغیر المألوفة، مما یضفي علی جمال الشعر، کما یشیر إلی ذلك رابح ملوك قائلا: «وتتحول الصور بفعل التضاد الحاد إلی صور مبنیة علی المفارقة، بحیث تقدم لنا الصورة ذاتاً أو ذوات تکتسي صفات غیر مألوفة، أوتتحرك في عوالم تبدو غریبة عنها، أو ترتبطها بغیرها من الذوات علاقات غیر طبیعیة، فینتج عن ذلك انشطار للذات الواحدة بین عالمین أو عوالم مختلفة» (2008م، ص 167)، كما يقول وحيديان كاميار: «إن التضاد لديه قدرة في تجسم وتصور الأشياء غير الملموسة، وهذا أهم دور للتضاد في خلق المعاني الجميلة واللطيفة» (1383ﻫ.ش، ص 63).
ونحن نری في هذا التصویر السینمائي في شعر الشاعرة، تأثیر التضاد في إثارة الانفعالات المختلفة في نفس القارئ أو السامع إزاء الأمور المتناقضة (بدوي، 1996م، ص 447). وهذا النوع من التضاد المستخدم في شعرها بواسطة حركاته الدلالية والمفاهيم غير مأنوسة في البال «یشکل في النصوص الشعریة أهم معطیات الانزیاح التي تحدث في مسارات النّص الشعري بین المعیاري المألوف وغیر المألوف، فحین یمده الشاعر بالتوتر إنما یمدّه بالحرکة التي تستوعب في صلبها مفارقات الحیاة» (اليوسفي، د.ت، ص 37).
ولا بد أن نقول: إن التضاد الفعلي بدرجته الحادة یزید من الانسجام النصي، ویجعل صور النص صورا متکاملا ومنسجما؛ «وکلما کان التضاد حادا، کلما کان النص أکثر تماسکا وانسجاما» (راضية وفضيلة، 2017م، ص 61). لعل هذا الازدياد في انسجام النص عند استخدام التضاد الحاد الفعلي یرجع إلی المعاني البحتة الخالصة التي لا تشوبها درجات، أي التوقعات الذهنية والحركات المضطربة للفعل، داخل كيان النص من أجل حدوث وقائع غير متكهنة.
وفي قصيدة رسالة من بئر حبّك، نشاهد تضادا فعليا آخر بين كلمتي "احضر ولا تأت"، فكيف يمكن الحضور والغياب مرة واحدة؟! بتعبير آخر، هذا التناقض هو المفارقة الجميلة التي خلقتها الشاعرة لوجود الهلع الذهني الذي قد مرت بها: احْضُرْ وَلا تَأتِ / كَيْ تَظِلَ لِعَتْمَةٍ مُبارَكَةٍ فِي سَماواتي قَمَرا أسودَ بالِغَ الضِّياءِ / تَفْتَحُ عَلى شَطْآنِي، تَحْتَ إشْعاعِه مَحاراتِ النِّسْيانِ المُنْغَلِقَةِ عَلى ذاتِها (د.ت: ص 31). نلاحظ بجانب هذين الفعلين، توظيف الكلمات المتضادة، مثل "عتمة مباركة"، و"قمرا أسود"، و"بالغ الضياء"، و"إشعاع"، و"تفتح والمحارات المنغلقة"، مما يزيد من شدة التوتر الروحي والقلق النفسي عند الشاعرة.
3ـ3. التضاد في الترکیب
إن التضاد في الترکیب یعبر عن تجاوز مستوی المفردات إلی مستوی الترکیب أي الجمل. «یتمثل هذا النوع من التضاد بترکیب لغوي یقف مقابلا لترکیب آخر، وبلفظة تتقابل مع ترکیب شعري» (بن عامر، 2005م، ص 87). «یشکل هذا النوع من التضاد تحولات ومتغیرات دلالیة تؤدي إلی تشابك سیاقات النص عن طریق تضافر البنیات القائمة علی التضاد والذي یتمرکز بدوره في النص الشعري» (عبد الحسين والربيعي، 2016م، ص 74). وهذا یدل علی الاتساق والاتصال بین معاني الجمل، وبالتالي استمراریة النص في إیراد التعبیرات المتناقضة. فالترکیبات المتضادة الناتجة عن التراکمات الاسمیة والفعلیة داخل نص ما، تكثف دلالة المعاني في المفارقات المختلفة، وهذا یحکي عن الأسالیب المختلفة في التعبیر عن المعنی الواحد (المصدر نفسه، ص 74).
وهذا النوع من التضاد بواسطة تشکیل الدلالات المتکاثفة یؤدي دورا هاما في الترابط النصي ویزیده؛ لأنه «یقوم بتنظیم التراکیب الضدیة وتوزیعها بصورة متتابعة» (جدي وروابحي، 2017م، ص 96). ورد هذا النوع من التضاد في شعر غادة السمان بصور مختلفة منها: ها أنا أخِطُّ رِسالتي إليكَ / لِأعْتَرِفُ لكَ بِأنّكَ سُلطانُ العالم/ تَحیا لتُمیتَ الأشیاءَ کُلَّها بإتقانٍ / تُعلِّمُنا وَحینَ نَسْتَوعِبُ الدّروسَ تُقَتِّلُنا (د.ت، ص 26). في هذه الأبیات من قصیدة رسالة إلی زمن، تذکر الشاعرة کلمتي "تُحیا وتُعلّمنا"، ثم تقابلهما بکلمتي "تمُیت وتُقتلنا"، ثم تتحدث عن عدم وفاء وغدر الزمان والشؤون المتناقضة التي تجمعت فیه وعدم اعتمادنا علیه؛ فجاءت هذه الکلمات المتضادة لتکثیر المعاني وتقریبها من الذهن.
تستمر الشاعرة وتقول: فَأعي أنَّني طالما حارَبْتُ أشخاصاً یَنتَمي قَلبي إلیهم / وَصادَقتُ أشخاصاً أمْقَتُهم (المصدر نفسه، ص 26). فيری التقابل بین العبارتین "حاربت أشخاصاً وصادقت أشخاصاً" و"ینتمي قلبي إلیهم وأمقتهم". فالشاعرة تحارب أشخاصا تحبهم وتصادق أشخاصا تبغضهم؛ فهذه الصور المتناقضة بمدلولاتها المختلفة تنتمي إلی النوع من التناقض الذي تعاني منه الشاعرة في حیاتها وفي زمنها، وعبرت عنه من خلال هذه التراکیب المتضادة، لترينا أن مر الزمن ونوازله المرة هما السببان الحقیقيان للصداقة والسلم المزیفان مع الأعداء والحرب الکاذبة مع الأحباء.
وفي قصيدة أخرى للشاعرة رسالة إلى من يكتب الخواء، نلاحظ هذا النوع من التضاد في التركيب. والشاعرة قد رصفت كلمات هذه القصيدة بشكل أن تكون بدايتها متضادة حتى النهاية لتحدث انسجاما جميلا في المعنى: يا لَرَسائِلِكَ المُطَوِّلَةِ القاحِلَةِ/ لِماذا لا تَكْتُبُ أقلَّ، لِتَقولَ أكْثَرَ؟ / لِماذا تُثَرْثِرُ كَيْ لا تَقولُ شَيْئا حَقيقيا؟ / وَلِماذا تَهْجُرُني، وَتَكفُّ عَنِ الكِتابَةِ لي، بِصَمْتٍ يُشْبِهُ صَرْخَةَ انْفِجارِ القَلْبِ؟ (المصدر نفسه، ص 25).
فهي بواسطة التراكيب المتضادة "لماذا لا تكتب أقلّ، لتقول أكثر"، تشير إلى عبثية الحب لأجل أن ليس له كلام للبيان، أو لأنه لا يعبر عن الحقيقة، أو لأنه ليست له جرأة للتصريح بما مكنون في نفسه. وفي نهاية الشعر، حين تقول: "بصمت يشبه صرخة انفجار القلب"، توظف هذا التركيب المتضاد في تشبيه متناقض يحكي عن المفارقة اللفظية والفنية. فكيف من الممكن تشبيه الصمت بصرخة انفجار القلب؟ الصمت الذي يكون أكثر قاتلا للنفس الإنساني من الصرخة التي ناتج عن تكسّر قلب حزين.
3ـ4. التضاد التأويلي
والمقصود منه التضاد بین دلالة الألفاظ، بحیث لا تفهم من ظاهرها الضدیة والتناقض، بل من جذورها المعنویة والعلاقات الدلالیة، یتبین لنا هذا التضاد، فیکون التضاد من جهة المعنی. «فإنه لا يحصل عليه بسرعة وبسهولة وبحاجة إلى تأويل النص والكشف عن المعاني الخفية فيه» (يوسفى وبختيارى، 1396ﻫ.ش، ص 169). و«یعني هذا النوع من التضاد، أن تأتي اللفظة مضادة لأختها لیس بصورة حرفیة صریحة کما في الطباق، بل اعتبار اللفظة الردیفة منزلة منزلة الضد في سیاق العبارة» (بن عامر، 2005م، ص 85)، كما يطلق عليه محمد راستگو في كتابه هنر سخنآرایی، عدم الترابط المعنایی بین التراکیب، ویجلب نموذجین في هذا المضمار، فـ"إلقاء العمامة" كناية عن شدة الحزن، و"رمي الرأس إلى السماء" كناية عن شدة الفرح[4] والابتهاج.
فهذا النوع من التضاد یدل علی المعنی الكنايي والضمني بین الکلمات المتضادة، وبدلالة الألفاظ المتناقضة، تقوي التکامل والترابط النصي، وهذه الدلالة تجعل القاريء أن یفهم النص ویتفاعل معه (1376ﻫ.ش، ص 199)؛ «لأن لظاهرة التضاد دلالة سیمیائیة من حیث کونها تثیر حرکة دینامیکیة في السیاق النصي، وتجعل تفاعل المعاني والأخیلة والأحداث والشخصیات محققا في جوهر واحد یمثله المعنی، مما یسمح بإعادة ترتیب بنیة النص وجعله أکثر تکاملا وانسجاما» (بوقرة، 2003م، ص 329).
وهذا یعني خلق الوحدة الموضوعیة بین المعاني المتضادة المتسقة في النص؛ فلنبحث، وفق هذا التعریف، عن الألفاظ التي لیست متضادة في الواقع، بل حسب تأویل معانیها الحقیقیة، يدرك التضاد الموجود بینهما؛ ولا بد أن نذکر عدد هذا النوع من التضاد في دیوان الغادة قلیل جدا بنسبة للتضاد الحقیقي. وفيما يلي نموذج منه في قصیدة رسالة المرایا المکسورة: في الظَّلامِ حینَ نَخافُ / لا نَنْشُد أغْنیةً واحدة / وَمَأساتِي أنَّ مَقولةَ "لَنْ یُفرِّقُنا شَيءٌ" تُضْحِکُني بِصَوتٍ مُرتَفَعٍ / حَتّی في حَفَلاتِ التأبینِ الوَقورةِ (د.ت، ص 116).
ففي هذا السطر الشعري، ورد التضاد بین عبارتي "تضحکني وحفلات التأبین الوقورة"؛ ولکن لیس بینهما التضاد في اللفظ، لأنّ لفظ الضحك یقابله لفظ البکاء. وأما لفظ حفلات التأبین، فیقابله لفظ حفلات الولادة، ویتضح لنا أن الثنائیتین الضدیتین الحقیقیتین هما "الضحك والبکاء" و"حفلات الولادة وحفلات التأبین"، وهما لم یردا في سیاق النص المذکور؛ أما الثنائيتان الضديتان "الضحك وحفلات التأبین"، فهما تمثلان تضادا تأویلیا.
كما نلاحظ في قصيدة رسالة إلى جسد، توظيفا آخر لهذا النوع من التضاد، عندما تقول: تَأتيِني مِنْ تِلكَ الغاباتِ الغامِضَةِ / وَعَلى وَجْهِكَ الأقْنِعَةُ كُلُها / أقْنِعَةُ المَوْتِ وَالحَياةِ وَالسّحْرِ وَالخَصَبِ / ألْمَحُ قَلْبَكَ عارِيا / كَعُصْفورٍ نَقَرَ البِيضَةَ مِنْ الداخِلِ حَتى انْكَسَرتْ وَغادَرَها إلى اللَّيلِ / لِيَطيرَ حَياتَها كلُها فِي أرْضِ المُغامِرَةِ وَالثَّلْجِ دونَ أنْ تَحينَ منه التفاتةُ إلى الوَراءِ، صَوبَ التي احْتَضَنَته باِلدَّفءِ ... / يَوْمَ فَتَحْتَ فَمَكَ وَقُلْتَ لِي وِداعا / شَعَرْتُ أنَّني أحَدِّقُ فِي قَبْرٍ مَفْتوحٍ يَنْتَظِرُني (المصدر نفسه، ص 46).
فالتضاد في هذه الجملات قد ورد بين عبارتي "أرض المغامرة والثلج" و"احتضنته بالدفء". بتعبير أدق، عبارة "أرض المغامرة والثلج" قرين بالبرد وما ينتج عنه من قساوة القلب، فهي تناقض الاحتضان بالدفء الذي ينتج عنه الحرارة والرفق واللطف والحنان. ولعل "الاحتضان بالدفء" يشير إلى العالم الذي يسبق الحياة، وبالتالي إلى الطيبة في الإنسان؛ و"أرض المغامرة والثلج" یشیر إلى عيش الإنسان في هذه الحياة التي ليست من ثمارها إلا الفشل واليأس والنزاع، كما نلاحظ نوعا آخر من هذا التضاد بين كلمتي "السحر والخصب"؛ فالسحر قرين بالقحط واليبس؛ لهذا يناقض الخصب والنمو في المعنى والتأويل. ونری قلة توظیف هذا النوع من التضاد في دیوان غادة السمان؛ ولهذا دوره قلیل عکس الأنواع الأخری في تحقق الانسجام النصي.
کما یعرف من هذا العنوان، لا بد لنا أن نهتم بالتصاویر المحسوسة التي خلقتها الشاعرة في الترکیبات المتضادة لتساعدنا علی معرفة المفاهیم المصورة في نصها الشعري والأهداف التي قد كمنت وراءها. بعبارة أدق، التضاد التصويري بواسطة التقنیات المختلفة کالتشبیه والاستعارة، يوفر للشاعر التوسع في المعنى. وبهذا الطريق، يزيد من الانسجام النصي وتقوية المعنى.
وبما أن التضاد نفسه يعد ضربا من التقنيات التصويرية، فتوظيفه في الصور المجازية يرفع هذا التعمق الفكري واستجلاء المعاني الكثيرة؛ لأن التضاد «یعمل علی توسیع أفق التلقي وتنشیط الخیال، وشحن الصورة ورفدها فنيا، فضلا عن خاصیة الترکیب التي تجلو العلاقة بین الضدین بشکل أعمق عبر عملیة التقابل الصوري الذي یعد قوة خلاقة داخل النسیج التصویري، ولاسیما من خلال إنعدام المتنافرات والمتناقضات، وتمحورها حول الأطراف المتقابلة المتعاکسة لیجعل الصورة أکثر عمقاً وثراء» (السلطاني وحسين، 2013م، ص 407 ـ 408).
فيؤكد على هذه القضية الأستاذ محمدرضا شفيعى كدكنى في كتاب صور خيال در شعر فارسى، يقول: «إن تأثير التضاد في الشعر يمثل في إنجاز طريق فكري قد خلقته النظرة الفنية للشاعر إلى مبدأ الكون، والتي تؤدي إلى التجربة الفنية؛ شرط أن نعتبر الخيال مجموعة من الخصائص البيانية والمجازية في الشعر؛ رغم أن التصوير يحقق في كل تعبير متميز ولافت للنظر» (1376ﻫ.ش، 145). فبالتعمق في هذه التصاویر المبدعة في الترکیب، نحس القضایا التي أحست بها الشاعرة. وهذا یحکي عن الثقافة والوعي الشعري لدیها في تلون أسالیبها التعبیریة. وینقسم التضاد التصويري في شعر غادة السمان إلی القسمین: تضاد التشبیه؛ وتضاد التشخیص.
5ـ1. تضاد التشبیه
یعبر هذا النوع من التضاد عن صورتین تشبیهیتین متناقضتین یشبه فیها المشبهان المجردان غير الملموسین، إلى المشبهین بهما المجسّدین في الذهن "والذين يمكن لمسهما في عالم الواقع"، وذلك عن طريق وجود التضاد بين طرفي التشبيهين غیر المتضادین في المعنی الحقیقي؛ ولكن المتضادين في المفهوم، ومن خلال إنشاء العلاقة التشبيهية؛ بأن يكون المشبّه في التشبيه الأول، متضادا للمشبه في التشبيه الثاني. فالتضاد كظاهرة ديناميكية يجعل طرفي التشبيه، عنصرين نشيطين جميلين أمام المتلقي. «وهذا الأمر یتم عن طریق إحلال طائفة من الصور الحیة محل طائفة من المعاني المجردة، وتمکینا لها من أن تتخیل في الذهن، کما تتخیل المتحققات» (عناد السلامي، 1436ﻫ، ص 255).
فنقرأ في دیوان غادة السمان: حبُّكَ بَحرٌ هائجٌ / وَاللّغةُ قاربُ نجاةٍ / حُبُّكَ عاصفةٌ / واللُّغةُ عَباءةٌ ألفُّها حَولي (د.ت، ص 19). في هذه العبارة من قصیدة رسالة منقوشة کوشم، یتجلى التضاد الجمیل بین کلمتي "الحب واللغة" بواسطة تشبیه الحب ببحر هائج وعاصفة، وتشبيه اللغة بقارب النجاة وبالعباءة. فالشاعرة مرة شبهت التناقض الداخلي في نفسها حول قضیة الحب الصارخ الذي یأتي بالاضطراب والتشویش في نفسها بالبحر الهائج والعاصفة؛ لأن الحب یکون في الواقع، قرین الهدوء والسکینة؛ ومرة ثانیة تشبه اللغة الأصیلة التي تتکلم بها، وبتعبیر آخر تساعدها في إنشاد الشعر، بقارب النجاة والعباءة اللذین يقللان من هذا الارتباك النفسي ويخلصانها من التوتر والقلق والاضطراب.
ونری تضادا تشبیهيا آخر وظفته الشاعرة بأبهی التصویر في قصیدة معنونة رسالة فراشة تحرّق المصابیح: أعْتَرِفُ أنَّني مازِلتُ أهیمُ بكَ کِراهیةً / وَأنا هاربةٌ بأِجنِحَتي / فَقدْ حاولتُ مرّةً أنْ أکونَ لكَ نافذةً / فَکنتَ لي قفصاً! / کنتُ في حَیاتِكَ مثلَ فراشةٍ مجفّفةٍ بَینَ دَفتيّ کتابٍ / حرّمْتَها مِنْ الطَّیرانِ / وَلم تعلّمْها القِراءةَ (المصدر نفسه، ص 147). نری، في هذه السطور الشعریة، تشبيهات جمیلة.
فالشاعرة تشبه ذاتها بالعصفورة الأسیرة في القفص والفراشة المیتة والمجففة بین دفتي کتاب، وتشبه الحبیب الافتراضي وقساوته التي يعیق حریتها بإنسان حبسها في القفص كطائر ومنعها من التحلیق في الفضاء، وأیضا تشبه هذا الرجل وتفكيره السلبي بصياد قاس طرد فراشة لجمالها، ثم جففها وجعلها بین صفحتي كتاب ـ وبتعبیر آخر قیدها ـ حتی لاتزال تکون محبوسة بین یدیه، دون أي إرادة وحریة في إبداء الرأي. فذات الشاعرة بهذه التشابیه، أي العصفورة والفراشة، تتناقض مع ذات الحبیب الافتراضي القاسي يقوم بصيد الطيور والفراشات ويحرمها من الحرية والتسوية بين الحقوق ...؛ وبالتالي یعج نصها الشعري بهذه التناقضات السلبیة التي تؤثر في خلق الانسجام النصي الذي تدور حول فلك تلاحم التفكرات الواحدة؛ مهما تلونت خلفها ظواهر الكلام الأدبي.
وفي قصيدة أخرى تحت عنوان رسالة منقوشة كوشم، قد ورد التضاد التشبيهي بين هاتين الثنائيتين: "الحب واللغة"، حيث تلعب الشاعرة بالكلمات وتخلق اللغز الذهنية الجميلة لتثير عواطف المتلقين بواسطة المفردات المتضاد المستخدمة في التشبيهين الاثنين: وَحُبّكَ مَوتِي اليَوْمِي مُنْذُ مِئاتِ السِّنينِ / مُنْذُ لامَسَتْني لَعنَةُ حُبِّكَ وَدَمَغَتْني بِحَدِيدِها الكاوِي / خَلفّتْ اسْمَكَ وَشْما تَحْتَ جِلْدِي. / وَاللُّغَةُ خَلاِصي ... / حبُّكَ أهْوالِي التي لا يَتَّسِعُ له فَضاءُ / وَاللُّغةُ مَظِلَّةُ أقْفَزَ بِها بِسَلامٍ إلى جُزُرِ النِّسْيانِ / وَأنا أكْتُبُ لِأهْرُبُ مِنْكَ، وَلكِنْ إليكَ (المصدر نفسه، ص 20).
وهي في هذه الجملات الشعرية، تشبه الحب الذي مسها، بالموت البطيء المتدرج الذي يعذبها يوميا باحثة عن الطريق الذي ينجو من هذه الآلام النفسية، فهو يكون اللغة، عندما تقول: اللغة خلاصي، ثم تشبه هذا الحب الظلوم بالأهوال والمصائب، وبجلب تشبيه آخر متضادا لهذا التشبيه، تشبه اللغة بالمظلة، أي بالمكان الأمن الذي تلتجأ إليه الشاعرة لتنفس عن نفسها الكرب والبلية؛ وفي نهاية الشعر، تختمه بالمفارقة الجميلة، عندما "تقول لأهرب منك، ولكنْ إليك"، فانظر كيف تدور الكلمتان "الحب واللغة" في تركيب تشبيهي متضاد لینقل إلينا رسالة الوفاء والغدر.
5ـ2. تضاد التشخيص
يدل تضاد التشخيص علی منح التصویر الإنساني للموجودات المتقابلة، لیقربها من النفس ویقدم من خلالها صورة نابضة بالحرکة والإثارة؛ لأن التشخیص يقوم على «إضفاء الخصال البشریة علی أشیاء أو کائنات غیر إنسانیة سواء کانت حیة أو جامدة، معنویة أو غیر معنویة» (عصفور، 1995م، ص 268). فالتضاد في التصاویر المتقابلة يشتمل على الصورة التشخیصیة التي تقابل الصورة التشخیصیة الأخری في عدة خصال، منها معنویة أو مادیة، وذلك مثل قول الشاعرة: فَهَلْ عَینُ الحُلمِ أکثَرُ صَحواً مِنْ عَینِ الصَّحوِ؟ / حینَ أعودُ إلی دَمشقَ، سَأخْلَعُ قَمیصَ العَواصِفِ وَالأمْطارِ وَالصَّوائقِ وَأرتَدي صَوبَ الشَّمْسِ (د.ت، ص 15).
ففي هذه السطور الشعرية التي أخذت من قصیدة رسالة إلی دمشق ... مسقط قلبي، شبه الحلم وفي مقابله الصحو بعیني الإنسان، ثم حذف الإنسان وأسندت عیناه إلی الحلم والصحو؛ وعن طریق الاستفهام التقریري، تقابل الشاعرة بین عین الحلم وعین الصحو، وتجعل عین الحلم أکثر صحوا من عین الصحو، بما فیها من قدرة علی النظر إلی وطنها الذي لم تراه من قریب جیدا، حین کانت تعیش فیه، ثم تستمر أحلامها في معان متصلة ومرتبطة؛ وتشبه العواصف والأمطار، أي الحنین والعذاب اللذین کان تعاني منهما في الغربة، بالقمیص الذي تخلعه؛ وفي مقابلها، تشبه الهدوء في وطنها بصوب الشمس التي تلبسه، عندما تريد يوما أن ترتد إلى مسقط رأسها سورية؛ لأن كل شيء في وطنها يمثل الارتياح والطمأنية والسكينة، والشمس في بلادها هي التي تحیي في قلبها الأمل والحبور والسرور بعد ما کان قلب الشاعرة میتا لإصابة عواصف الزمن بها؛ فعین الحلم تقابل عین الصحو، کما قمیص العواصف یقابل صوب الشمس.
فنری تحقق الانسجام النصي بوساطة هذه الصور التشخیصیة المتقابلة من بدایة السطر إلی نهایته؛ لأن المعنی في الشعر «یظل ناقصا ما لم یکتمل بنظیره، ولا یتحقق المعنی إلا بنقیضه، وهکذا یتحول مبدأ التضاد من مبدأ وجودي إلی مبدأ فکري، مارا من خلال اللغة، لیدخل في حرکة جدلیة تحقق الوحدة والتماسك ، وصولا إلی فکرة وحدة الأضداد» (أسير، 2011م، ص 107 ـ 108). فتوظف غادة السمان هذه الصور التشبیهیة المتقابلة في شعرها؛ «ولدیها ولع بالاستعارة السوریالیة، وهي تقیمها علی أسس من التناقض والتألیف بین الأشیاء المتعاکسة وفق ثنائیات متقابلة» (فاضل، 13/8/2013)؛ لتجعلها محسوسة لدی المتلقین، حیث یتمکنون من التفاعل معها والتأثیر منها. ويمكن القول: إن توظیف الاستعارة السوریالیة التي بنیت علی أساس التشخیص والأنسنة کثیر بالنسبة إلى الصور التشبیهیة الأخری.
کذلك نری توظیفا جمیلا لهذه الظاهرة في قصیدة رسالة من تاء مربوطة، حیث تشبه ذاتها المثقلة بالأحزان بتاء مربوطة، وحینما تتخلص من هذه الأحزان وتشعر بالحریة، تشبه ذاتها الحرة بتاء مبسوطة التي تناقضها: تاءُ التَأنیثِ المربوطةِ تَرتَدي السَّوادَ / وَلا تَجرَؤ عَلی المَشْي إلی جانبِ شَهریارَ / بَلْ تَتَدَحْرَجُ خَلفَه في مَوکِبِه الحاشدِ نُقطةٌ سَوداءُ / أو تَتکَوَّمُ علی جُرحِها / مُنذُ فارَقْتُكَ تَحوَّلْتُ مِنْ تاءٍ مَربوطةٍ مُثَقَّلةِ بِالأحْزانِ إلی تاءٍ مَبسوطةٍ لِلْحُریةِ / تاءٌ مَفتوحةٌ لِلْسَکینةِ وَالحُلْمِ وَالأبْجَدیةِ (د.ت، ص 35).
وهي في قصيدة رسالة من سنونوةَ، توظف المفردات المتضادة في تركيب الاستعارة التشخيصية: وَها أنا قارِبٌ طَرَدَتهُ المَرَافِئُ كُلُها / يُعْلِنُ أنَّ الحُرِيةَ ضَوءٌ بِجِناحَيْنِ / وَهُوَ مِنْ رَعايا الشَّمْسِ ... / ها أنا أدْفُنُ بِوَجْهِي في وِسادَةِ اللَّيلِ / وَأهْمُسُ بِاسْمِ الحُريَةِ كَمَنْ يَتْلُو صَلاتَه قَبْلَ النَوْمِ (المصدر نفسه، ص 45). فهي تشبه الحرية وما يقترنها من النجاح والسعادة بالضوء المحلق في السماء، وهو رقيق الشمس ويخدمها، وتشبه الإسارة في سجن الجسم والتخلف والموت الثقافي بالليل الذي له وسادة ويفرش كل ظلامه عليها ويمنعها الرقي والتطور في الحياة الفردية والاجتماعية؛ وبهذا تعلن رغم ستره في المجتمع المتخلف، فهي تكافح هذه المشاكل ولن تتخلى عن الحصول على الحرية لحظة، كالعابد الذي تدندن بهذه الحقيقة الوجودية في صلاته اليومية.
کل هذه الرموز المتضادة دلیل علی الحالة الروحیة التي تحملها الشاعرة. فتوظیف التضاد في شعرها یعکس نفسیة الشاعرة وما تعانیه من الحزن والأمل والفرح، فیبرز تناقضات حیاتها؛ «لأن الشعر المعاصر بات رؤیة معاصرة یقاوم المألوف ویتمرد علیه ویطرح التجدید ویراعي التطور والتعبیر عن متناقضات الحیاة والمعاناة الخانقة من خلال عبثیة الحصار الذاتي واللامعقولیة الوجود؛ ولأن الشعر المعاصر عبر طرح رؤیته التشاؤمیة والعبثیة، إنما انطلق قاصدا من خلالها لتجسید هموم الإنسان المتمزق في حضارته بالغربة والاغتراف وبالفقر الاجتماعي والألم، ویطرح معاناة البائسین والمهمشین والجائعین والفقراء والهاربین من الحروب ومن جرائم الإرهاب التي تدمر أوصال الحیاة لمعالجتها بکل وسائل المکننة» (كنجي، 18/1/2013).
ویمکن أن نقول: «إن ظاهرة الثنائیات هي واحدة من أهم الظواهر الفنیة التي یمکن رصدها في شعر غادة السمان، فهي شاعرة بارعة؛ ولشدة ولعها بالثنائیات تستخدمها في شعرها، وهي تدل علی التناقضات التي عاشتها في حیاتها بین الغربة والوطن، والقید والحریة، والخیر والشر، والحرب والهجر» (حمزة، 2015م، ص 323). فنصها الشعري مخزون لغوي عظیم تبدع فیه الشاعرة المصطلحات الحدیثة بوساطة التقنیات المبتکرة، منها التضاد والتناقض اللذان من خلالهما تعبر عن مشاعرها العمیقة المختلفة التي توحي بالحزن والفرح والخیبة والأمل والعزة والذلة.
الخاتمة
عالجنا في هذا البحث، قضیة التضاد في دیوان رسائل الحنین إلی الیاسمین، للشاعرة السوریة، غادة السمان؛ ووضحنا دور التضاد في الترابط النصي، ثم قمنا بتبیین التضاد من ثلاث زوایا: 1ـ التضاد اللفظي؛ 2ـ التضاد التأويلي؛ 3ـ التضاد التصويري. ودرسنا أقسامه عبر القصائد المختارة من دیوانها، وتوصلنا إلی النتائج التالیة:
ـ الأسماء المتضادة تخلق بنیة نصية تقابلیة ثابتة دون تحول دلالي، وینسجم إیقاع وتناغم الألفاظ المتضادة مع الدلالات والمعاني، وهذا یزید من الانسجام النصي والتکثف الدلالي وخلق المعاني الحدیثة في نصها الشعري.
ـ الأفعال المتضادة تخلق تصاویر حیة ودینامیکیة لمدلول الکلمات، وتنشط حرکة النص في البوح بمحتواه الدلالي. وهذه الحرکة تبحث عن المعاني المتباینة والمعاکسة، وبالتالي المکتملة التي تساعد علی تغذي النص واستمراریة معانیه وتحویلها إلی الحلقات الدلالیة المتواصلة. فعلاقة اللاحق بالسابق یسفر عن الترابط والتلاحم النصي في تخصیب الفکرة التي حاولت الشاعرة التعبیر عنها تعبیرا غیر مباشر؛ فهي بهذه الظاهرة تتكلم عن الحب والکره معا والأحاسیس الکامنة الأخری في نفسها، حتى لكأنها فیلسوفة تفكر في البحث عن المعاني العمیقة کرؤیة الموت والولادة الأخری و....
ـ والتراکیب المتضادة مهما دوره قلیل في نص الشاعرة، تساعد علی تکثیر المعاني وتقریبها من الذهن والتوازي والتوازن بین مفردات العبارة، وبالتالي ترابط بدایة النص بنهایته في نسیج مشتبك ومتسق، فیضفي علی النص، المعاني غیر المتوقعة التي تتناقض رؤیة القارئ وتتصدم أفق انتظاره؛ علی سبیل المثال، نواجه التضاد بین کلمتي "تحیا وتمیت" في بدایة السطر، ثم نری تضادا آخر بین کلمتي "تعلّم وتقتل"؛ کما نواجه تناسبا وتوازنا بین کلمتي "تحیا وتعلّم"، وکلمتي "تمیت وتقتل"، وهذا ینم عن دقة الشاعرة في انتقاء هذه المفردات ووضعها في مکان مناسب.
ـ والتضاد التأويلي يؤدي دوره في إیصال المعاني المتنوعة وفي الأبعاد المختلفة النفسية والسیکولوجیة والاجتماعیة إلی ذهن المتلقي؛ وتوظیف التضاد التأویلي قلیل جدا بالنسبة للتضاد الحقیقي، وهذا یدل علی وضوح المعاني المستخدمة في دیوان غادة السمان وعدم الغموض فیها.
ـ أما التضاد التصويري بقسميه التشبیه والتشخیص؛ فیساهم بواسطة خلق التصاویر الحیة والبدیعة في تنوع المعاني في نصها الشعري ویعطیه المعاني الجدیدة والمبتکرة؛ کذلك یقوي التماسك الداخلي في النص ویصبح کأداة فاعلة علی ترابط النص الشعري، ویکمّل فجوات النص، أي یستقبلها المتلقي أکثر وضوحا وبعیدا عن الإبهام؛ کما نری في التضاد التشبیهي، تشبیه ذات الشاعرة بالعصفور والفراشة المجففة، ثم یناقض هذه الصورة، تشبیهُ حبیبها الافتراضي بالإنسان القاسي والكتاب الظلوم اللذین یحرمانها عن الطیران والحریة؛ وفي التضاد التشخیصي تشبیه ذاتها المثقلة بالأحزان بتاء مربوطة؛ وفي مقابلها، ذاتها الحرة بتاء مبسوطة؛ وهذه التصاویر المبدعة تحکي عن الثقافة والوعي الشعري للشاعرة في تلون أسالیبها التعبیریة.
ـ ظهور التضاد والتناقض في شعر غادة السمان یعکس تناقضات حیاتها بین الحنین إلی الوطن والغربة، والحب والکره، والموت والولادة الأخری، والصداقة المزیفة مع الأعداء والحرب الکاذبة مع الأصدقاء، والبکاء والضحك، وثقافة الغرب وثقافة الشرق والمعاني الأخری الجميلة.
[1]. Connectivities
[2]. Access
[3]. Syntagme
[4]. هذه المفردات، نماذج من البيتين لسعدي الشيرازي:
وارثان دستار از مرگم زنند ار بر زمین |
|
لیک در باطن کله بر آسمان میافکنند |
(واعظ قزوينى، 1359ﻫ.ش، ص 210).
ترجمة البيت: إن يلق الوارثون العمامة على الأرض بسبب موتي، يرموا القلنسوة إلى السماء في الباطن.